اللجوء المعطوب

اللجوء المعطوب

16 ابريل 2017
+ الخط -

إن دفاتر القهر التي نكتبها كل يوم لا تكفي نزقاً وصراخاً حتى توصل أخبارنا إلى الخلاص، كل طرق أوروبا التي تمر من جزيرة قبرص هي معابر السياحة والتفاهمات التجارية والاقتصادية والاجتماعية، لكلّ مِلل الأرض، إلا اللاجئ السوري

إضبارة الإنسانية هناك، والتي تتدفق لجوءاً وحياةً مستعارةً، هي في الطابق السفلي للبشرية.

تصنيف بأدوات عنصرية، وشروط تعجيزية حتى تكره الأرض أكثر، هيا غادر من هنا، راياتك المرفرفة بالدرجة الثالثة من المواطنة، وأنت مجرد كائن مؤقت، عليك أن ترضخ لكل المقترحات: اعمل في فرز الخردوات في مصنع يبعد عن منزلك (27 كم) رغم أن مهنتك صحافي. تفكر للحظة، ما الذي يحاول هؤلاء فعله بالناس هنا؟ لو رفضت الذهاب إلى العمل سوف يتم إغلاق ملف لجوئك، وتعرض نفسك لمضايقات قد تحيلك مريضاً نفسياً.

ما الفرق يا ترى بين المريض النفسي واللاجئ السوري؟

كلاهما فقد من عقله الشيء الكافي حتى يتحوّل إلى آلة أو أداة إعلامية يتاجر بها كل من يسمع بقصة الحرب والثورة هناك في الشام المشتعلة. 

الجنون يسمو نحو وحدانية وفرادة وعزل تام عن المجتمع، لكن هذا الأخير ساهم بصناعتك بشكل أو بآخر، صناعتك كسوري مجنون في جزيرة لا تفهم بكاء الحارات العتيقة في يديك، ولا تعرّق الشوارع الخائفة من متاريس وحشتك. 

يرتفع عداد العطب اليومي في الروح، وتتهدم متنزهات اللعب التي عمّرَتها طفولتك عن أوروبا، يرجّ محرك المعمل المنتظر يديك حتى تفرز البلاستك من الحديد والنحاس والقذارات الشوارعية، تتأمل قليلاً بطاقة عليها هاتف صاحب المعمل، وتسمع طلبه منك القدوم بعد أسبوع لتبدأ بالعمل، وأنت تفكر هل هذا تخلّف مستورد أم ولادة طبيعية؟

بالتأكيد لم يخبرني أحد أن كنوز المعرفة والتغيير سوف تهطل علي في بيتي القبرصي (المستأجر) الصغير حيث أنظر كل يوم إلى عمّال محطة الوقود أمام نافذتي، وأفكر بطلب عمل هناك، على الأقل كلما احتجت للصراخ وضرب رأسي بحضارة أوروبا، وجدت غرفتي قريبة وسريري جاهزاً لاحتواء نشيجي البطيء، لا أريد تلك الكنوز أو حتى محطة الوقود، كل ما طمحت إليه كرسي وطاولة وبعض الكتب والهواء الخالي من القذائف والطيران ورائحة الطغاة والعسكر وزعماء المليشيات الطائفية التي فتتت بلدي.

أجل سأترك لكم مبلغ اللجوء العتيد الذي لم أره حتى الآن، اصرفوه كما تريدون، أشكركم على الإقامة وقبولي زائراً لبعض الوقت هنا، لكن دعوني في مساحة صوتي وكلماتي، أكتب... أكتب فقط!

يا أوروبا الحضارية، بماذا أقسم لك إن كل ما أعرفه في هذا الكون هو الكتابة فقط؟ يا أهل البلاد ماذا أرفع لكم من قرابين حتى تتأكدوا أن أصابعي لا تزال في السابعة من العمر رغم أني تجاوزت الثلاثين! 

إذا كانت أوراقي الثبوتية تفيد الحضارة الأوروبية بشيء، فأنا قد استغنيت عنها، لا بلد لي في هذا الكون سوى بعض الكلمات التي ترممها هشاشتي كل يوم.