اللبنانيون بين ساستهم و"الصندوق"... خيارات ضيقة بين السيئ والأسوأ

اللبنانيون بين ساستهم و"صندوق النقد"... خيارات ضيقة بين السيئ والأسوأ

11 يوليو 2020
خلال احتجاج معيشي في لبنان (العربي الجديد)
+ الخط -

في مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، وقّع رئيس مجلس الوزراء اللبناني حسان دياب ووزير المالية غازي وزني طلب مساعدة رسمية من صندوق النقد الدولي للحصول على دعم مالي ملحّ يخرج لبنان من أزمة تشكل أكبر تهديدٍ لاستقراره منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، ومضت المفاوضات بين الجانبين بتكتّم شديد قبل أن يبدأ مشوار "الفضائح".
بعد أيامٍ من الطلب، وجد لبنان نفسه أمام صراع الخسائر المتضاربة بين خطة "التعافي المالي" التي أقرّها مجلس الوزراء في 30 إبريل/ نيسان الماضي ومقاربة مصرف لبنان المركزي، ما استدعى تدخل لجنة المال والموازنة النيابية في محاولة منها لتوحيد الأرقام، واستُكمِلَ المسار قبل أن يُجمّده صندوق النقد الدولي الذي لم يلمس أي تفاهمٍ من قبل الوفد اللبناني المفاوض، لا بل شهد على استقالة اثنين من أعضائه في ظلّ غياب النية والإرادة الحقيقية ببدء الإجراءات التي يشترطها الصندوق لدعم لبنان.
في المقابل، ظهرت مخاوف من وقوع لبنان في مصيدة صندوق النقد الدولي، وكلفتها الكبيرة على الشعب اللبناني الذي بات يعيش واقعاً فرضته عليه منظومة سياسية ومالية بنت أمجادها وإمبراطوريتها على الفساد والمحاصصة والصفقات ووضعته أمام خيارين لا ثالث لهما "السيئ والأسوأ"، وذلك بعدما وضعت البلاد في مصاف الدول الأكثر مديونية في العالم، مع تجاوز الدين العام أكثر من 170 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي.

وفي هذا السياق، يشير الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ اللبنانيين سيدفعون أثماناً باهظة جداً نتيجة الشروط القاسية التي سيفرضها صندوق النقد الدولي مقابل منح المساعدة للبنان، حيث إن الصندوق ليس جمعية خيرية وأساس عمله يرتكز على تصحيح الأرقام وتقديم العملة الصعبة للدول التي تعاني من عجزٍ في ميزان المدفوعات قبل أن تقوم الولايات المتحدة (وهي أكبر مشارك فيه) بتوسيع نطاق عمله وتعطيه صلاحية إعادة هيكلة اقتصادات الدول التي تعاني من انهيار مالي وإفلاس. وهنا تبدأ المخاطر.
ويشرح يشوعي أن الحديث عن إعادة هيكلة اقتصاد الدولة، تقابله قرارات يجب على الأخيرة اتخاذها من أجل الحصول على مساعدة مالية من الصندوق، وعلى سبيل المثال، يريد صندوق النقد الدولي تخفيض قيمة العملة المحلية وليس فقط تحرير سعر الصرف، أي الخطوتين معاً بهدف تعزيز الصادرات. وثانياً، الصندوق لا يقبل ولا يتحمّل العجز في الموازنات العامة ويطلب تخفيض الإنفاق الإداري وإعادة هيكلة القطاع العام ما يعني الاستغناء عن موظفين. وأيضاً ستتم زيادة الضرائب مع رفع الدعم عن بعض المواد.
وفقاً لذلك، يعتبر الخبير الاقتصادي أنّ الشروط التي يضعها صندوق النقد هي "ضربة كف" لا تبرّر المليارَيْن المطلوبَيْن منه سنوياً على خمسة أعوامٍ، "فهذا المبلغ يشكل أقلّ من نصف الفوائد التي ندفعها على الدين العام والتي لا تقلّ عن أربعة مليارات دولار".
ويشدد يشوعي على رفضه أي اقتراض جديد خصوصاً مع منظومة سياسية فرّطت بمليارات المؤتمرات الدولية ومعها القروض التي لم تتحوّل إلى نمو وإنماء بل دفعت المواطن اللبناني إلى المزيد من الضرائب واستمرارية اقتصاد ريعي وقائم على الاستيراد بدلاً من أن يكون اقتصادا منتجا، "وبالتالي فإنّ أي استدانة جديدة سيكون مصيرها التبخّر كسابقاتها وسيدفع ثمنها الشعب اللبناني".

أما البدائل، فيشدد يشوعي بداية على أن الثقة بالحكّام هي الشرط الأساسي لانطلاق مسار الإصلاح، فعندها الناس ستعيد أموالها تلقائياً إلى المصارف، من هنا ضرورة محاسبة من أهدر المال العام، وهذه صفحة لا يمكن طيّها. إضافة إلى ذلك، على لبنان أن يلزم المؤسسات العامة لشركات دولية من دون بيعها، ما يسمح بتنشيط الاقتصاد، مقابل إقرار موازنة متوازنة من دون عجز واقتراض جديد، وتخفيض خدمة الدين واعتماد سياسة ضريبية شديدة الاعتدال للمساعدة على إعادة النهوض.
من جهته، يشير عضو لجنة المال والموازنة النائب محمد الحجار، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن صندوق النقد الدولي يكاد يكون الباب الوحيد ليؤمن لبنان من خلاله السيولة التمويلية المطلوبة لموازنته، ومن دونه لا يمكن للبلاد أن تستمرّ في ظلّ تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والمالية والنقدية وانعدام الخيارات الأخرى، "لذلك علينا البدء بتنفيذ الإصلاحات التي يطلبها الصندوق والتي في مقدمتها إصلاح قطاع الكهرباء ووقف الهدر وتخفيف العجز في قطاعٍ يتسبب بأكثر من نصف الدين العام".
ويشدد الحجار على أنّه يجب تعزيز موقع لبنان في المفاوضات بأرقام موحدة، وهذا ما حاولت لجنة المال والموازنة القيام به من خلال البحث عن الثغرات التي أدت إلى حصول اختلاف كبير بين أرقام الحكومة من جهة، التي كانت تتصارع بين أعضائها، ومصرف لبنان وجمعية المصارف، بعدما تبيّن أن الحكومة اقرت خطة التعافي الاقتصادي من دون بحثها مع أصحاب الشأن. 
وعرفَ لبنان تاريخاً حافلاً مع الجهات الدولية المانحة بيد أن التجارب لم تكن مشجعة نتيجة سياسات الهدر والفساد.
وقبل صندوق النقد الدولي، عُقِدَت مؤتمرات دولية لدعم لبنان اقتصادياً ومالياً لمواجهة أزماته الحادّة، آخرها "مؤتمر سيدر"، الذي انعقد في 6 إبريل/ نيسان 2018 في العاصمة الفرنسية باريس، حيث أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن جمع نحو 11 مليار دولار من المنح والقروض لتعزيز الاقتصاد والاستقرار اللبناني، لكن لبنان خسر فرصة الدعم الدولي بسبب عدم قيام الحكومة بالإصلاحات المطلوبة.

وأتى مؤتمر "سيدر" بعد مؤتمرات باريس 1، 2، 3، التي انطلقت في 27 فبراير/ شباط 2001، ومن ثم في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، وثالثاً بتاريخ 25 يناير/ كانون الثاني 2007، وارتكزت كلها على تعهدات مالية مشروطة بخطة استراتيجية في إطار برنامج إصلاحي واضح وجدي وشفاف، لكنّها لم تبصر بغالبيتها النور حتى اليوم.

المساهمون