اللاجئون والمهاجرون: البحث عن الألفة المستحيلة

اللاجئون والمهاجرون: البحث عن الألفة المستحيلة

12 ابريل 2017
+ الخط -

بعكس المسار الاختياري، والذي يُحدد حالة الهجرة عند بعض الباحثين، فإنّ المسار الإجباري هو سمة اللجوء الأساسيّة. فالهجرة، في تحديدها السائد، هي خروج الإنسان من موطنه لحاجةٍ دراسيّة أو عمليّة مثلًا، نتيجة قرارٍ طوعيّ. أمّا اللجوء، والذي يبدو حسب اسمه قسريًا، فإنه يأتي نتيجة بحث الإنسان عن موطنٍ بديل عن موطنه الأصليّ خوفًا من الاضطهاد أو الحروب.

عبر تلك القسريّة التي تطبع وتحدد حالة اللاجئين، يأتي المعنى الإشكالي للجوء، ليس فقط من حيثُ إنه حالة مستعصيّة منذ البدايّة، وإنما أيضًا من حيث هو حالة مستعصيّة لدرجةٍ يستحيلُ علاجها من شتّى الوجوه، في نهاية المطاف. فاللجوء اليوم، لا يُقاربُ بشكلٍ حقوقيّ وإنسانيّ إلّا في جانبٍ ضيّق منه؛ إذ الاعتبارات السياسيّة والاقتصاديّة والمخاوف الثقافيّة الشوفينيّة هي المسيطر الأبرز على الواقع.

ومن هناك أيضًا نشأت مشكلة اللجوء الناتجة عن نظرةٍ مفارقة، لا تبالي بالإنسان اللاجئ في وضعه الراهن المأزوم، سعيًا إلى التأكّد من صلاحيّته لإعادة التوطين مجددًا، لأنه قادمٌ من خلفيّةٍ جغرافيّة وثقافيّة تبعثُ على التشكيك في "إنسانيته". من هنا، لن يكون مفارقًا بالمقابل، إذ اعتبرنا اللجوء اليوم نوعًا من الإعاقة الجغرافيّة يُمارَس على أصحابها تعقيدٌ لا دخل لهم فيه.

تتساوى الهجرة تقريبًا مع اللجوء في وضعيّة التعقيد والمُساءلة التي تطبّق عليها. فالمهاجرون، من العالم المُستعمَر سابقًا، معرّضون لشتّى أشكال الفحص، لمعرفة مدى استحقاقهم السّكن في الدول التي يتقدّمون لها بطلب الهجرة أو اللّجوء.

فالسفارات الأوروبيّة مثلًا، في دوّل "العالم الثالث"، تمارسُ دوائرها المختصّة بقضايا الهجرة واللجوء إخضاعًا فحصيًا على كل المتقدمين، قبل إعلان قرار القبول أو الرفض. ويتصوّر الجميع تقريبًا هذه الدوائر، التي غالبًا ما تمارسُ عملها على شكل التحقيق البوليسيّ، تصورًا رهيبًا.

ولنعرف إلى أيِّ مدى تشكل حالة اللاجئين تحديًا حقيقيًا للبشريّة وقيم الحقوق والتعايش المعاصرة؛ فما علينا إلّا إلقاء نظرةٍ، وإن عابرة، على الوضع الذي يعيشه اللاجئون من العالم اليوم، خصوصًا منهم اللاجئين السوريين، كأكبر مثالٍ على ذلك حاليًا، منذ السنوات القليلة الماضيّة. وقد بذل الصحافيّ الألمانيّ فولفانغ باور جهدًا كبيرًا لإطلاعنا على ذلك الألم الجمّ، من خلال كتابه "هاربون من الموت: السوريون والطريق إلى أوروبا" (ترجمة جمال خليل صبح)، بعد أن عاش مغامرًا معهم تجربة الهروب. يستعرضُ باور في كتابه هذا حكاية الهروب/اللجوء بشكلٍ مؤلم، سعيًا منه إلى جعل العالم يبالي بمعاناة اللاجئين.


حقوقٌ مخصخصة
في 20 أيلول/ سبتمبر عام 2007 جرت محاكمة سبعة صيادين تونسيين في صقلية في إيطاليا، وسببُ ذلك هو إنقاذهم لأربعةٍ وأربعين مهاجرًا أفريقيًا من الغرق في البحر.

يستعرضُ سلافوي جيجك هذه الحادثة للبرهنة على مصداقية مفهوم "الإنسان المُستباح" للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن، وهو الإنسان الذي تم استثناؤه من النظام المدني والقانونيّ، وأصبح بذلك معرضًا للخطر. يعرضُ جيجك هذه القصّة بوصفها مفارقة تحدثُ في الغرب الذي يعتبرُ نفسه الموطن الأوّل والنهائي لقيم حقوق الإنسان.

الإنسان المستباح الذي لا يتمتّع بالحماية القانونيّة في النظام المدني هو تجسيدٌ لحالة اللاجئ، والذي يأخذ مظهرًا غريبًا على النظام السياسيّ والاجتماعي القادم عليه، وبالتالي فلا يستحقُّ بناءً على ذلك حماية ذلك النظام له أو اهتمامه به.

قدّمت حنه أرندت نقدًا فلسفيًا للحداثة السياسيّة، من جهة حقوق الإنسان، بيّن أنّ "حقوق الإنسان"، بوصفها السرديّة الأبرز للحداثة السياسية والقانونيّة، هي على عكس ما يتمّ الادّعاء غالبًا؛ محصورةٌ في "حقوق المواطن"، التي تحدّد وفقًا للإقليم الجغرافيّ من حيث الجنسية.

يبدو هذا الإشكال مطروحًا بقوّة مع ما يتمُّ ترويجه اليوم من كونيّة حقوق الإنسان في ظلّ العولمة، فالصدود المُمارس اليوم في وجوه اللاجئين يستندُ في عمقه إلى خاصيّة المواطنة، بما ينطوي تحتها من مميّزاتٍ مُحتكرة.

حنّه أرندت التي كتبت نصًّا مؤثرًا بعنوان "نحن اللاجئين"، باعتبار أنها كانت لاجئة ألمانية في مرحلةٍ من حياتها، ترى أن ربط حقوق الإنسان بالدولة الوطنية الحديث يستحيلُ معه وجود حقوق للإنسان بالمعنى الحقيقيّ. وهذا ما يوافقها فيه تقريبًا أغامبن، في مقالةٍ له بنفس العنوان أيضًا، عندما يقول: "حتى في أحسن الأحوال، فإنّ وضع اللاجئ يعتبر وضعًا مؤقتًا يجب أن يؤدي في نهاية المطاف إلى التجنيس أو العودة للوطن الأصلي. فأن يكون الإنسان بصورته المجردة كإنسان فقط وبصورةٍ دائمة هو وضعٌ لا يمكن تصوّره في قانون دولة الأمة".


لستُ مأمونًا بما فيه الكفاية
بعد ثلاثة أشهرٍ من التردّد على إحدى السفارات الغربيّة في نواكشوط، استطاع الشاب ميْمين ولد عبد الوهاب أن يحصل على الإذن بالقبول. وفي عام 2014 استطاع السفّر، وعند قدومه على البلد المستضيف كان مضطرًا للبحث عن عملٍ إضافةً لدراسته.

اليوم يمضي ميمين ثلاث سنواتٍ تقريبًا في هذا البلد، وهو يقول: "في البداية، أي على مدار الأشهر الأولى، كنتُ أشعرُ أني لستُ مأمونًا بما فيه الكفاية. بعد ذلك لم ألبث أن تعوّدتُ على لعب دورٍ مُضّاد، واليوم أنا أشعرُ أني كمن يقف على خشبة مسرحٍ، ويؤدي دورًا تمثيليًا بعناية شديدة ليستحق ثقة الجمهور، لكني لا أضمنُ نجاحي، فقد خسرتُ تلقائيتي وأخشى فقدان ثقتي بنفسي حين سعيتُ بتخطيطٍ مني لأن أصبح مألوفًا بالنسبة للنّاس هنا، على الرغم من أني شخص عاديّ محب للحياة".

ما يعانيه المهاجر ميمين هو ما يعانيه تقريبًا غالبيّة المهاجرين واللاجئين بشكلٍ خاصّ. فالمشكلة، في هذه الحالة، تبدو مجسّدة في الإخضاع الذي يمارس على هؤلاء، من حيث تكيّفهم من عدمه مع نظامٍ صارم مسبّق من التنميطات والنماذج، التي يعدّ المرور بها شرطًا لحيازة الثقة. وما لم يخضع المهاجر/اللاجئ لذلك النظام، من أجل أن يعلن براءته ويؤكّد إنسانيّته، فإنّه سيبقى بالنسبة لذلك النظام التنميطيّ الاختباري بمثابة قنبلةٍ على وشك الانفجار في أيّ وقت، ما يجعل الشعور بالألفة نحوه مستحيلًا.


سياسات الاندماج القسريّة
خريطة توزيع اللاجئين اليوم هي خريطة مربكة تمامًا، كما هو الوضع الذي قدموا منه. ويمكنُ القول على نحوٍ تأكيديّ إنّ أزمة اللاجئين لا تنحصرُ فقط في ما عانوه داخل أوطانهم، من قمعٍ واضطهادٍ وتهديدٍ لأسباب متعدّدة، ولكنها تتعدّى ذلك إلى واقعهم الآني، أي بوصفهم لاجئين، يقفون في مرحلةٍ صعبة يتم فيها رفضهم والتضييق عليهم، إضافة إلى التشكيك بنواياهم لأسبابٍ عنصريّة وعدائيّة.

وعلى مرّ تاريخهم، كان اللاجئون معرّضين دومًا لأنماطٍ معيشيّة وثقافيّة جديدة، نظرًا لتنقلهم من حيّزٍ جغرافيّ معيّن إلى حيزٍّ جغرافي مختلف في نظمه الثقافيّة والفكريّة التي تكسبه هويته. ولأنّ ذلك التنقل لا يحصلُ بشكلٍ عفويّ إطلاقًا، فقد جعل ذلك تجربة الاندماج تجربة إشكاليّة بالنسبة لواقع اللاجئ، بسبب ما تطرحه من خياراتٍ غير مألوفة.

وكما يبدو من خلال سياسات الاندماج، المُتاحة اليوم أمام اللاجئين من العالم العربي الإسلاميّ، خاصّة من فئة الشباب، فإنّ صفة القسريّة المُسبّقة تبقى مطروحة بشكلٍ دائم، لمعرفة مدى استحقاق هؤلاء الدخول إلى الدوّل التي يتقدّمون لها، وهي الدول الغربيّة أساسًا التي يظهرُ دائمًا أنّ وصفها بدول المركز لا يزالُ ممكنًا. فبعيدًا عن أنظمة الحراسة المتعددة على الحدود، توضّح سياسات الاندماج التنميطيّة المُتاحة أنّ الحواجز متعدّدة أمام اللاجئين، إذ إنّ هذه السياسات المُتاحة، بمقاسٍ محدّد ومُعيّن، هي سياساتٌ ذات طبيعةٍ قسريّة تعاملُ اللاجئين بوصفهم "آخَر" يستعصي التعايش معه، إلّا في حالةٍ واحدة، هي شريطة انخراطه في ممارساتٍ معيّنة يؤكدُ من خلالها صلاحيّته أو قابليّته للعيش في محيط هذه المجتمعات الجديدة.

هذه السياسات الاندماجية هي سياساتٌ قسريّة، لا تشجّع التعايش ولا تسهّله، نظرًا لمعاني الفوقيّة والأحاديّة المُضمّنة فيها. فبدلًا من أن تتيح هذه السياسات مجالًا حرًا للمناورة حول آليات تنظيم الحياة بشكلٍ يقبل الاختلاف والتعدّد الثقافيّ، فإنها تقدّم نفسها بشكلٍ مركزيّ وأحاديّ يقدّم نفسه بوصفه المعيار الأوحد على الرقيّ الحضاريّ، وهذا ما يجعل تطبيقها قسريًا من جانب واحد، فلا يحصلُ إثر ذلك اندماجٌ عفويّ ومتسامح.

ولعلّ السؤال الذي يبقى مطروحًا في هذا الصدد من قبل اللّاجئ: هو كيف أصبح مندمجًا، وأنت لا تحترمُ ثقافتي؟ عبر هذا السؤال يعبّر اللاجئون والمهاجرون عن الظلم المُمارس عليهم. فكلّما بدا أنّ الاندماج، وفق أنظمةٍ وصيغٍ معيّنة، مستحيلًا بالنسبة لهم، أصبحوا كائناتٍ خارجة عن القانون وفاقدة الشرعيّة، وبالتالي لا تستحقُ غير الاضطهاد مجددًا. فمن خلال هذه السياسات القسريّة تتمُ إعادة قمع اللاجئين والمهاجرين، وإظهارهم بمظهر البربريّ غير القابل للتعايش، لتتضاعف نتيجة ذلك غربتهم.   

المساهمون