الكيميائي في سورية.. الناجي من يموت

الكيميائي في سورية.. الناجي من يموت

12 ابريل 2018
+ الخط -
الأساسي الذي يفسر لجوء نظام الأسد المتكرّر للسلاح الكيميائي في حربه "المفتعلة" ضد الجماعات الإسلامية، هو غطرسة القوة تجاه محكوميه، الغطرسة مع الداخل التي هي الوجه الآخر للصَغَار الذليل تجاه القوى الخارجية، أكانت القوى التي تدعمه (إيران، روسيا) أو التي توجه له الضربات حين تشاء (إسرائيل، أميركا) أو التي تدخل أراضيه، وتحتل وتدير منها ما يتيحه لها توازن القوى (تركيا). إنه الإفصاح البليغ عن الانعدام التام للشعور بالمسؤولية تجاه شعب البلد الذي يزعم أنه يحكمه.
لماذا يستخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي؟ سؤال بديهي، ليس من باب الأخلاق السياسية أو العسكرية، فلا أخلاق من أي نوعٍ يمكن انتظارها من الأنظمة الشبيهة بنظام الأسد التي لا يردعها سوى الخوف، بل من باب الحاجة العسكرية. هل بعد كل هذا التفوق العسكري توجد حاجة للسلاح الكيميائي؟ السؤال بديهي أيضاً من باب مقارنة جدوى استخدام الكيميائي بالتداعيات التي يمكن أن تلحق بمثل هذا السلوك الذي يمتلك من الانحطاط ما لا يقوى "المجتمع الدولي" على تمريره كما يمرر القتل اللاكيميائي. لماذا إذن يكرر نظام الأسد استخدام السلاح الكيميائي، على الرغم من أنه في كل مرة يدفع الثمن بشكل ما، مرة بتسليم
 سلاحه هذا بعد وقوفه على شفا ضربة أميركية بعد أكبر هجوم كيميائي ينفذه نظام الأسد على الغوطة في أغسطس/ آب 2013، ومرة بضربة أميركية على مطار الشعيرات في حمص، عقب هجوم كيميائي نفذته طائرات نظام الأسد على خان شيخون قبل عام، واليوم بضرب مطار التيفور عقب الهجوم الكيميائي (لم يتبن أحد هذا الهجوم حتى الآن، على الرغم من أن النظام وروسيا اتهما إسرائيل، ومن غير المعروف إن كان لهذا الهجوم علاقة بالغدر الكيميائي للنظام أم لا. الحقيقة أنه لم يعد ينقص الشعب السوري إلا أن تقوم إسرائيل بحمايته من حكامه وبمعاقبة نظام الأسد على بطشه بشعبه!) والوقوف أيضاً على شفا ضربة أميركية أو أكثر من أميركية؟ ما الذي يجعل نظام الأسد يكرّر هذه الجريمة/ المغامرة؟ حتى لو افترضنا أن النظام واثق من أن "المجتمع الدولي" لا يريد إسقاطه، فما الذي يضطره لدفع هذه الأثمان، وإن كانت تقصر دون إسقاطه؟
قبل التفكير بهذه الأسئلة، ينبغي أولاً تحييد المنطق "الأسدي" الذي يعتمد الأسئلة السابقة نفسها، للقول إن النظام لم يستخدم الكيميائي، وإنها فبركة.. وإلخ. كما ينبغي تحييد المنطق "الحقوقي"، الأسدي هو الآخر، الذي يطالب بالأدلة والقرائن والإثباتات. لا شك أن الأسديين ما كانوا ليحاججوا في هذا الموضوع، ويجتهدوا في تشتيت النظر عن هذه الجريمة الكيميائية أو ما سبقها، لولا أن أميركا تعتبر القتل الكيميائي ممنوعاً، ولكان هؤلاء يتفاخرون الآن بالقوة الكيميائية كما يتفاخرون بغيرها (وفي كل حال لا يخلو الأمر من أسديين ساذجين، لا يخفون بهجتهم بالقتل الكيميائي ويعلنون تأييدهم القتل الذري أيضاً، لو توفر. هؤلاء يقولون ما يخفيه الأسديون "الرزينون").
على الرغم من أهمية إثبات الجريمة والتحقيق فيها، يبقى أن قابلية توجيه التهمة لنظام سياسي ما باستخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه، هو إدانة بحد ذاته. فكيف إذا كان نظام الأسد قد وقف في هذا المكان مرات عديدة، وكيف إذا كانت لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة أثبتت تورّطه مرات عديدة؟ حتى لو كانت هناك أطراف تريد توريط النظام بجريمةٍ لم يرتكبها، فإن تاريخ النظام الأسدي، وطبيعته السياسية والأمينة التي تسمح بلصق مثل هذه التهمة به، تعني أن النظام مدانٌ سلفاً، من دون تحقيقات ومن دون أدلة.
ينبغي التفكير بالأسئلة السابقة من موقع إدانة النظام، أي من موقع اليقين بأن نظام الأسد مارس قتلاً معمماً، وارتكب مجازر كيميائية "الناجي منها هو من مات فيها"، كما يقول تعليق عميق ومؤلم.
غطرسة القوة على الشعب، والصَغار والهوان تجاه القوى الخارجية، هذه هي مادة نظام الأسد اليوم. باستخدام الكيميائي يحقق النظام ثلاثة أهداف، الأول مخاطبة معارضيه بالقول: لا شيء 
يمنعني من استخدام "أي شيء" لسحقكم، وعلى مرأى من العالم بوصفي جزءاً منه، وبوصفكم "خوارج" عليه، حين تخرجون عليّ (وهذا صحيح للأسف، وفيه مشاركة عالمية صريحة في قتل السوريين). وهي، في الوقت نفسه، رسالة "وحشية" لتعزيز لحمة أشدّ أنصاره تماهياً به، ولدغدغة غرائزهم "الحيوانية"، بحسب أحد تعابير ترامب الصائبة. يقوم مبدأ هؤلاء الأنصار على غريزة لاحمة تقول إن لم أقتلهم سوف يقتلونني. وأما الطيف الواسع الواقع بين "الخوارج" و"الحيوانات" فإنهم باتوا في موقع المستسلم لمجريات الأحداث، بعد أن خسروا أدوات الفعل الممكنة وسط عالم اللامعقول الذي شمل البلاد. الهدف الثالث أن المغامرة بالتعرّض لضربة أميركية أو غربية تعطيه فرصة استثمار الرصيد الذي بقي له بعض الحضور الشعبي، ولاسيما "اليساري"، وهو شرف المواجهة مع أميركا والغرب، وفق مبدأ باطل يقول إذا ضربتك أميركا أو إسرائيل فأنت على حق.
يبقى السؤال: إذا كان يمكن إيجاد ما يفسر لجوء نظام الأسد للسلاح الكيميائي، ما الذي يدفع الروس إلى قبول هذا الاستخدام؟ هل يعقل أن يحدث ذلك دون موافقتهم؟ أم أن الروس باتوا مرهونين للنظام بقدر ما هو مرهون لهم، وبات الحفاظ على هذا "الحليف" أمراً حيوياً من دونه قد تخسر روسيا ما حققته من ترسيخ لحضورها العالمي الذي أنفقت عليه الكثير في سورية منذ سنتين ونصف؟ بمعنى، هل بات الروس تحت رحمة تابعهم، أو قل في علاقة اعتماد متبادل معه؟
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.