الكوميديا الأرضية وأمور لها العجب

الكوميديا الأرضية وأمور لها العجب

30 يونيو 2019
+ الخط -
رماني بنظرة من إياهم ثم راجع ذكريات الماضى والضحكة تكاد تفلت خلسة من بين نواجذه فعرفت وقتها أننا قد بدأنا.. جاء بباله أيام كنا شبابا نتوارى فى مكتبة الجامعة نهمس ونتبادل آراء ظننا يوما أنها ستغير من الواقع شيئا، لكن ظل، كما هو، واقعاً لا يهوى إلا القعود.

كانت من صفاته الحيرة في كل شيء.. يحاول أن يكتم بعضاً من تفكيره حول أمور تنفر منها النفس، وإن رأتها معتادة فلا يقبلها العقل، لذا خففت عنه وطأة مثل تلك الأمور بأن يسألنى وأجيبه بكلام يكثره حيرة أو صمت، يجمع شتاته أو أعطيه تلميحات من بعيد لبعيد في أمور رآها مجتمعنا حساسة في المناطق الحساسة!

صاحبنا الدكتور زعبلاوي تمايل بجسده في ناحية وصوّب وجهه لي مفتتحاً الكلام: "بالصلاة على النبي بتقرا إيه الأيام دي؟!"..

فجاوبته: الكوميديا الأرضية؛ كتاب للدكتور زكي نجيب محمود اقتبست لك منه: "لا تنسَي يا أمي أن تطلبي الرحمة من رب السماء بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق الجبل لقد رأيتهم بعيني رأسي يتحمسون لك ولا يدّخرون من وسعهم وسعاً فقد كانوا يتجادلون في نوع الإصلاح الدستوري يستوردونه من فرنسا أم بلجيكا ويتناقشون هل يخلق الفنان فنه لنفسه أم يوجهه لك ويبحثون كيف يهيئون لك مصيفاً تستمتعين فيه بهواء عليل، فتقدم صديقي وأعطاها ثمن الحلوى.. وبسطت يدها وقالت: ربنا يبارك لنا فيهم أجمعين".


ظهر على ملامحه التأثر بما قلته، لكن لم أعلم أنه سيحتويه البؤس لدرجة أن يوجه لي تلك النوعية من الأسئلة، قائلا بعدما أجال ناظريه لقدميه: "وما الممتع فى حياة مهددة بالموت في أي لحظة؟!"..

فسارعته بالإجابة قبل أن تواتيه الفرصة للتخلص من نفسه ويرمي بها وبأفكاره إلى البحر، فقلت: وما الممتع في التفكير بالموت، وما زالت في الحياة حياة وبإمكانك أن تجعل البؤس بأساً تغير به العالم بدلاً من أن يغيرك.

ارتسم بعض الأسى على نبرة صوته واتضح أن الإجابة كانت نوعاً من أنواع المسكنات التي يتعاطاها أملاً في الحياة. وجمع آماله سائلا عن أحلامي، فقال: ما الحلم الذي دوماً تسعى لتحقيقه؟..

تداعبنا نسائم عزف العود من ألحان السنباطي منفردة عن الكلمات، ولكن توحي الطقطوقة خلسة إلى جزء من الأطلال.. ارتفع صوتي فجأة وجاوبته: أسعى لأن أعيش الحياة اسماً على مسماه فكل ما أخشاه حياة بطعم الموت.

لكنه عرف أنى لن أقع في فخ الحياة البائسة الذي يكمنه وراء كل سؤال، لكنه أراد أن يوضح مدى تفاهة الحياة بسؤاله: ما الإنجاز الذي فعلته ما الذي تظن أنك تستحق عليه شهادة تقدير في تلك الدنيا؟

فسلمت له الإجابة ومعها شهادة التقدير، وقلت: تعلمت أن المواقف لا تلزم الواحد منا أن يتوقف عندها بل يتخطاها لكي لا يجعل حياته مجرد لحظة، لكنه يعيش اللحظة والموقف كما هو، فما إن انتهى ينتهى معه التفكير فيه.

أراد صاحبى أن ينقل هذه الكوميديا السوداء التي تترنح في القعدة، فأخذ بيدي قائلاً: هل سيهدأ الوضع في السودان، وما نوع الدولة الذي تراه مناسبا؟

صدرت منى آهة، تابعتها بأني أتمنى -وما نيل المطالب بالتمني- فالسودان كباقي دول القمعستان، فأرى أن ما يناسبه حكومة مدنية ليس لها نفوذ عسكري، وليس لها توغل ديني، تسمح بالمشاركة السياسية للجميع، فنحن كشعوب عربية تجشأت من تجارب العسكر والإخوان، أحدهم يجيش الدولة والآخر يأخونها، والشعب نفسه مثلما نقول: "طلع من المولد بلا حمص".

بدون تعليق على ما قلته، دخل فى سؤال آخر، لأنها مناطق حساسة، فقرر أن يضع يدي على منطقة أخرى.. فقال ما هي السعادة، وكيف تكون الحياة مثالية؟

أعتقد أن الحياة المثالية هي التى يتحلى صاحبها بالسعي وتعمل ما عليك فتصبح مثالياً، فإذا كانت الدنيا هدفاً، كانت بداية ضياع الهدف، والسعادة أبوابها كثيرة، أهمها في رأيي: "ترك ما لا يعنيك"، وإن مشاكل الدنيا ستُحلّ لو عرف كل واحد حقيقة نفسه.

من الواضح أني وضعت مفهوماً جديداً لديه عن الحياة، فبدأ يسترسل في السؤال عن الحب والعشاق والهائمين، فقال: ولكنها متكبرة! تحسبه تكبراً وهو كبرياء معتقة بعظمة لا شك في أن الذي يجهل قلبها يجهل أمرها، كانت بسيطة يغلب على طباعها الرحمة، عفوية لا تستطيع ترتيب الكلام أو تزيين الجمل، صبورة على الأذى تحسبها جامدة وهي هشة للغاية، من يعرفها يعرف كم هي سهلة ولينة وبريئة كالأطفال.

فقلت له: ولكنه مختلف! تأتيه بكبريائها فيغلبها بشوقه، تبدأ الخصام فيدعوها للكلام، تصمت الأفواه فتتفوه القلوب فى حديث مفتوح مع الروح، يأتيها وقد شتته العالم فتجمعه، يتوه في الطرق ظناً بعدم العودة فما يلاقي إلا أنه تائه بها، ولمَ لا؟.. والحب هو روح الابتداء وسر الاستغناء عما سوى المحبوب، لكن جوها الغرائبي يدهشه دوما بعفويتها فكانت تلقائية لأبعد الحدود حتى قالت له بعد وصلة من الغزل: "هناكل إيه انهاردة؟"..

فسألني: ولم تتكلم بكل هذه المآسي التي شقت طريقها في تقاسيم وجهك؟
فجاوبته: لأنها رحلت، فاشتقت وظللت أفتش عنها حتى تهت أنا.
فتابعنى بقوله: استمع لقلبك لكي تجد طريقها وإن أفتاك الناس وأفتوك.

لكن ماذا عنها إذا استحسنت الطريق الآخر؟
فاسلك لغيرها سبيلا. قالها منتشياً.

فبعدت نظري عنه، وهمست: أخشى الدخول في النفق، لكن في الأخير إن تعثرت بنا الأمور وتهنا سنوقف تاكسي!
وما هي إلا لحظات حتى أيقظني العطش من منامي، وصوت والدتي يتدلى من الخارج تقول: "ابقى اتغطى وانت نايم"!

A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.