الكوريتان ودبلوماسية الألعاب الأولمبية

الكوريتان ودبلوماسية الألعاب الأولمبية

13 يناير 2018
+ الخط -
في بادرة كورية بينية، التقى ممثلون عن الحكومتين الجنوبية والشمالية، قبل أيام، على الخط الحدودي الفاصل بين البلدين، وبالتحديد في القرية نفسها التي تم التوقيع فيها على اتفاق وقف إطلاق النار في 1953. وهو أول لقاء رسمي بين الكوريتين منذ 2015، ويأتي بعد أشهر من التوتر العسكري، بسبب التجارب الصاروخية لكوريا الشمالية، وتبادلها التهديدات مع أميركا  دونالد ترامب.
اتفق البلدان في اللقاء على أمرين أساسيين: مشاركة رياضيين من كوريا الشمالية في الألعاب الأولمبية الشتوية في كوريا الجنوبية في فبراير/ شباط 2018، ما يعني أن كوريا الجنوبية ستخفض من حدّة العقوبات المفروضة على جارتها الشمالية، بسبب تجاربها النووية، لتسهيل هذا التطبيع الرياضي بين "الشقيقتين". وتذكّرنا دبلوماسية الألعاب الأولمبية الشتوية هذه بدبلوماسية تنس الطاولة التي دشنت الانفراج، ثم التطبيع في العلاقات الأميركية - الصينية في سبعينيات القرن الماضي. ثانيهما، الشروع في محادثات عسكرية، لخفض حدّة التوتر في شبه الجزيرة الكورية.
تعود هذه الدينامية الجديدة في العلاقة بين الكوريتين إلى إعلان كوريا الشمالية، قبل أيام، 
إمكانية مشاركة رياضييها في هذه الألعاب، الأمر الذي رحبت به كوريا الجنوبية، مستغلة الفرصة لاقتراح عقد هذا اللقاء الذي قبلته كوريا الشمالية. وتعبيرا عن نيتها وقف التصعيد وتهدئة الأمور، أعادت كوريا الشمالية العمل بالخط الهاتفي الأحمر بين العاصمتين، بيونغ يونغ وسيول، على نمط الخط الأحمر الذي كان يربط واشنطن بموسكو إبّان الحرب البادرة. وتعبيرا عن نيتها في التهدئة أيضاً، أجلت كوريا الجنوبية المناورات العسكرية مع الولايات المتحدة، المزمع إجراؤها في الربيع المقبل.
الواضح أن لكل طرف أجندته في الراهن، فكوريا الجنوبية مهتمة بخفض التوتر العسكري، وبمصير آلاف العائلات التي فصلت الحرب بين أعضائها. وكانت الكوريتان قد اتفقتا على تنظيم لقاءات عائلية بداية من 2000 وبانتظام، إلا أن هذه اللقاءات العائلية بقيت مرهونة بمنحى التوتر بين البلدين، ما حال دون تنظيمها بالشكل المطلوب، لتتوقف تماماً في 2015، بعد القطيعة مجدداً بين الكوريتين، جرّاء التجارب النووية الكورية الشمالية.
بالطبع، لولا الضوء الأخضر الأميركي لما عقد مثل هذا اللقاء، ما يوحي بأن هناك مراهنة أميركية، بل وصينية وروسية أيضاً، على مبادرة كوريةٍ بينيةٍ، لإنهاء التصعيد وتهدئة الوضع في شبه الجزيرة الكورية. وليس الحوار الكوري البيني جديداً، بل شهد جولاتٍ عديدةً عقودا، ولم يحقق إنجازات استراتيجية، لكن مجرد استئنافه إنجاز في حد ذاته، لأنه يسمح بتهدئة الأمور، وبالإبقاء على شعرة معاوية بين "الشقيقتين"، خصوصا أن الطرفين يفضلان التحاور مباشرة من دون وساطة أجنبية. لكن بالنظر إلى طبيعة العلاقة الاستراتيجية، فإن الأمر يتعدّاهما، ثم إن كوريا الشمالية لا تريد التحاور مع جارتها الجنوبية بشأن المسألة النووية. فهي تعتبر أن الأخيرة تفتقر للاستقلال الاستراتيجي. لذا يبقى الملف النووي خارج دائرة العلاقة الكورية البينية. أما الولايات المتحدة، فأعربت عن استعدادها للتحاور مباشرة مع كوريا الشمالية شريطة تخليها عن ترسانتها النووية، وهذا مستبعد على الأقل على المديين، القريب والمتوسط.
يشكل الحوار الكوري البيني بدون شك عامل تهدئة بين البلدين، ويدل على أخذهما زمام الأمور بعيداً عن القوى الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، كما يعبر عن استراتيجية كوريا الشمالية 
لاستمالة كوريا الجنوبية، ومحاولة إبعادها بعض الشيء عن أميركا، لا سيما وأن سقف المطالب الجنوبية أدنى من سقف المطالب الأميركية. فكوريا الجنوبية تبحث عن إنهاء التوتر، وبعث التهدئة مجدّداً، وتسوية بعض الجوانب الإنسانية للعلاقة بين البلدين، كما قلنا، كما ترغب في وقف كوريا الشمالية تطوير ترسانتها النووية. لكن لا تعتبر هذه المسألة شرطاً مسبقاً للحوار، عكس الولايات المتحدة. فإكراهات الجغرافيا والواقعية السياسية تجعلها أقل تشدّداً من أميركا. فهي تسعى إلى استمالة جارتها الشمالية، لتهدئة الوضع أولاً وقبل كل شيء، حتى تجنب شبه الجزيرة حرباً ستدمرها على آخرها. ثم إن الحوار الكوري البيني قد يساهم في إطلاق حوار أميركي- كوري شمالي، في حال تخلي أميركا عن شرطها المسبق.
واضح أن الولايات المتحدة أمام معضلة، فهي مرتاحة لمعاودة الحوار بين الكوريتين، والذي يعبر بحد ذاته عن تراجع في التصعيد، ما يحفظ وجه إدارة ترامب التي راهنت خلال توتر الأشهر الأخيرة مع كوريا الشمالية على المواجهة أكثر من الحوار. وربما يعبد لها هذا الحوار الطريق لفتح قنوات الاتصال والتفاوض معها. ومن جهة ثانية، هو يحرجها، وربما يزعجها، لأنه يجهض عملياً خيار المواجهة أو على الأقل يفقده الشرعية، لأنه يضع الولايات المتحدة في موقفٍ عدائي ومجهض لمساعي السلم الكوري البيني، إن هي وقفت ضده، كما يمنح كوريا الجنوبية هامش مناورة في العلاقة مع جارتها الشمالية، وهو أمر لا تستسيغه الولايات المتحدة.