الكلمةُ مفتاح.. الكلمةُ باب

الكلمةُ مفتاح.. الكلمةُ باب

16 سبتمبر 2019
+ الخط -
الكلمةُ أصل المعرفة؛ وهي معرفة، ومفتاحُ كلّ معرفة، وأيُّ بحثٍ عن معرفة لا يكون إلّا بالكلمة. اختر كلمتكَ فهي دليلك، ودليلٌ عليك، يقول النّفري: "إذا اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة". ثم يقول: "لا تأخُذ خبري من الحرف". وبين ضيق العبارة وعماء الحرف، تقفُ الكلمات التي نختار التّعبير بها، فاضحة جهلنا أو تحيّزنا، إنّها مركز الكون الذي نُمثّله، أو نتمثّلُه. 
انتقد عبد الفتاح كيليطو المُؤلّف الذي يتأفّف من قرّائه، لأنّهم "حوّروا مَقصُوده، وفهموا ما كتبه على غير وجهه، وأوّلوه على غير معناه"، بتعبير ابن حزم. ولكن "أليس في الأمر ما يجعله يعتزُّ به ويحمده؟ لأنّ فيه حياةٌ لما كتب؛ والاتفاق بين المؤلف وقُرّائه لا يحدث إلا إذا كان النصُّ ضعيفًا أو متوسطًا". حاصلُ الكلام، يكتب كيليطو "إمّا أن يكون هناك سوء فهم، وإلا فالنصُّ لا ضرورة له"، فالمؤلّفون الكبار هم الذي لم يُفهموا أول وهلة، وكم من كتاب شغفنا به بداية، ثم رددناه إلى مؤلّفه.
الطريقة التي تحيلُ بها الكلماتُ على عوالمٍ بأسرها، وعلى حقائق مجهولة، أو يتمُّ تجاهلها، تغيب عن أذهان كثيرين فيما يكتبون، من دون وعي بخطورة حُمولة الكلمات التي يختارونها، فقد وجدتُ أطروحة دكتوراه جيّدة في العلوم السياسية، بعد تصفّحها، ظهرت أخطاؤها العديدة الكاشفة عن الطُّرق التي تدلُّ بها الكلماتُ على جهلِ الباحث أو مغالطاتِه. مما قرأته "تفجّر جملة من الأحداث في الرّيف والأطلس بين 58 و59، وعدد آخر من الأخطاء المعرفية. وهكذا تتحوّل انتفاضة الرّيف المغربي، أو بالأحرى العصيان المدني، الذي صعد فيه سكّان المدينة إلى الجبال، احتجاجًا على التّهميش، وللمطالبة بحقوق أساسية للحياة البشرية الكريمة، من فعل سياسي بصم علاقة أهل المنطقة بالدولة، إلى حدثٍ من الأحداث العابرة غير المسمّاة، وغير المستحقّة للتَّأْريخ.
في 1958، حدثت انتفاضة في الرّيف من أبرز ما يمكن أن يحدث في بلدٍ حديث العهد بالفعل السّياسي، في مفهومه المعاصر. عصيانٌ مدني، باللّجوء إلى الجبال وإخلاء المدينة، احتجاجًا
 على إقصاء أبناء المنطقة من تسيير شؤونهم المحلية، ومن عدم إدماجهم في الحياة السّياسية الوطنية، إضافة إلى المطالبة بالمدارس والمستشفيات. هل من خطأ في هذه الطّلبات؟ هل من ثورة؟ هل من انفصال؟ كيف يدعو إلى الانفصال من يطالب بإشراكه في الحكومة؟ النتيجة قصفٌ مكثف، وقتل وسجن لمئات، من دون جريمة. يكفي أن تعلن عن موقفك الفردي والجماعي، برفض قراراتٍ غير عادلة، لتوصم بالخيانة، في بلدانٍ لم تقرّر موقفها بعد من الديمقراطية. وهذا أمر ممتدٌ في الزّمن الماضي والمستقبل، إلى أن يرث الأرض قوم آخرون.
وللتّذكير، طالبت انتفاضة 1958 بأمور تدخل في صميم الدّولة الحديثة التي افترضت أن المغرب ذاهب إليها بعد الاستقلال، خصوصا مع المقاومة الشّرسة التي أبداها أبناء المنطقة تجاه المستعمر الإسباني التي منحتهم معنويات عالية، سرعان ما اصطدمت بما حدث بعد الاستقلال. وكان من أهمّ مطالب العصيان المدني: جلاء القوّات الأجنبية عن المغرب، تشكيل حكومة شعبية ذات قاعدة عريضة، اختيار الموظّفين المدنيين من السّكان المحليين، إسناد وظيفة مهمّة لريفي في الحكومة، تسريع تعريب التّربية في كل المغرب، فتح ثانوية أو مدرسة عليا في الحسيمة.
حكى لي جدّي عن الانتفاضة، حين أُصيب برصاصة في ساقه، ولجأ إلى بيتٍ في الجبال، أنّهم هدّدوا من يخفي المصابين، لذا سرعان ما سلّم نفسه لإنقاذ الأسرة التي استضافته من العقاب، وقضى أشهرًا في السّجن، على الرغم من أنّه لم يفعل شيئًا، عدا الصّعود إلى جبل. ومع أنّ الحديث عن هذا التّاريخ، وما حدث، كان ضمن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بالحفاظ
 على الذّاكرة، كجزء أساسي من العدالة الانتقالية التي يُفترض أنّ المغرب مرّ منها؛ لكن لا تاريخ تمّ حفظه، ولا ذاكرة احتُرمت. وجزءٌ من المسؤولية يتحمّله أبناء المنطقة الذين نُجح في جعل بعضهم يُنكر هوّيته، أو يتنكّر لها. في وقتٍ كان مثيرا للسّخرية أن تقول في المغرب إنّك "ريفي"، لأنّك تدلُّ على انحدارك من منطقةٍ توصم بالتعصُّب والرّغبة في الانفصال، وهو إحدى أخطر الكبائر السّياسية التي يمكن استعمالها سلاحا ضد أي تيّار سياسي أو اجتماعي.
أكدت احتجاجاتُ الحسيمة (في الريف المغربي) قبل سنتين أنّ الأمر باقٍ ويتمدّد، مع صفة "أولاد الإسبان" التي ردّدها بعض أفراد الأمن في حق المتظاهرين، وتوجز تاريخًا من الوصم، وتاريخًا من الصّراع بين منقطة الرّيف والمخزن (السلطة المركزية). بين هامشٍ يبحث عن الكينونة في بلاد ترفضه، وتتّهمه بالعقوق، ومركزٍ يخشى جهة لها تاريخها في البحث عن حلول، ولو خارج عباءة المخزن.
الوصم الغريب بالانفصال، باللُّقط، لساكن أصلي، والمُحرّف للتاريخ، دليل على ورطة سياسية وأخلاقية، ومعرفية. حتى أنّه إلى جانب تهمة الانفصال، قُذف شباب المنطقة بوصم "أبناء الاسبان". ماذا فعل الرّيفيون بالإسبان الذين احتلوا المنطقة؟ لا تحتاج معركة أنوال إلى روايةٍ غير المعروفة، لا تزوير للحدث، لكن يُمكن إنكاره، يُمكن التّظاهر بعدم وجوده. وهكذا تقضي على تاريخ من المقاومة، والعنفوان، وتزرع بذرة الجبن، لأنّك عاجز عن اختيار كلمة أكثر دقة، كلمة ليست مأزقًا تاريخيًا، وليست شهادة على فشل سياقٍ حاول دفن الحقيقة، هذه التي تجد دائمًا طريقها للظهور، ولو بأغرب الطّرق.
الحقيقة التي تتورّط كلماتٌ كثيرة في التّعبير منها، لكن بعضَها يعبّر عنا، ويمنح الآخر مفتاحنا، مفتاح من أين جئنا، وكيف نمضي في الحياة بحمولتنا من الكلمات التي تُشبهنا، والتي التقطناها واحدةً واحدة، ثم نعيد رميها بالطّريقة نفسها في نهر الحياة.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج