27 ديسمبر 2014
الكذب السياسي والعنف في العراق
الكذب السياسي والعنف في العراق
دخان آثار تفجير في بغداد (مايو 2014 أ.ف.ب)
أن تكون كاتباً في واقع يعيش حالتين متزامنتين، ومزمنتين، هما: الكذب السياسي (أو كذب الساسة)، والعنف الذي يتخذ أشكالاً وحجماً غير مألوفين في تاريخ هذا البلد، العراق، فتلك مسألة تتطلّب منك شجاعة المواجهة. فأنتَ إذا ما كتبتَ في "الحقيقة العراقية" الراهنة، فتكشفها، ستجد أول ما يواجهك منها حالتان، استبدّتا بالواقعين: الواقع السياسي، وواقع حياة الانسان. فإذا كانت الأولى منهما قد "احتازت" صنوف الكذب والبهتان كلها، وشملت الكذب على الوطن والمواطن، فإن الحالة الثانية قد جرّها هذا الكذب السياسي (أو كذب الساسة) إلى أدنى ما عاشته البشرية في تاريخها من حياةٍ يستبدّ بها الإرهاب اليومي الذي لا نستطيع فصل "مشروع" هذا السياسي عنه، أعني "مشروع البقاء" و"ضمان الاستمرار" بـ"إنجازات" لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، إذا ما وضعنا "الفساد" عنواناً شاملاً لها، فإنه سيغطي المساحة من "فساد النفوس والضمائر" إلى "الفساد المالي والاداري"، وما بينهما يقع ما يصعب حصره!
وأن تكتب عمّا ترى، وتنطلق في ما تكتب من إيمان وقناعة، فذلك يعني أنك كاتب تقيم للحقيقة اعتباراً، وللتاريخ وزناً وأهمية، وتخشى أن يقول عنك الغد: "لقد كذب في ما كتب، وساير الزيف في ما رأى، واتخذ من الزائف مثالاً لتزييف الوعي في عصره، وناس عصره".
والمسألة، في الحالتين، ليست سهلة، وقد لا يدرك صعوبتها، بل خطورتها، كما يدركها كاتب يعيشها بتفاصيلها المفزعة. فالكاتب العراقي، اليوم، الذي يفتح عينه، حين يفتحها، على أيام مليئة بمآسٍ تسببها السلطة الحاكمة، وبانكساراتٍ ناتجةٍ عن سياستها، وعن الكيفية التي تدير بها أمور البلاد والعباد.
منذ أكثر من عشر سنوات، وهذا الكابوس يلازمنا، ونجده في كل يوم يتصاعد ليغدو أكثر حدّة وأشدّ عنفاً، وبحالات يأس أوسع، ومعه تبدو الأبواب مغلقة بوجه إنسان هذا "البلد المسكين"، باستثناء بابين ظلا مفتوحين له: باب الموت اليومي الذي يتشكل من الجريمة السياسية المنظمة والتفجيرات العشوائية التي أضحت تطال حتى المارة، وباب الهجرة الذي وجد فيه هذا الإنسان "طريق خلاصه"، فعبَرَ الحدود، وهو لا يدري إلى أين يمضي، وعلى أي دربٍ من دروب الغربة، وربما الضياع، ستمضي به خطواته اللائبة!
في عشر سنوات مرّت، وهي سنوات عُمْرٍ شقيّ، كل شيء تغيّر: فالإنسان الذي كان يستيقظ مع أضواء الفجر الأولى على أصوات العصافير وأغاريد البلابل، وهي تملأ فضاء حديقته المنزلية، وأطراف الشوارع التي تغصّ بالأشجار، تبدّل الوضع معه، فأصبح يستيقظ على دويّ الانفجارات، وارتداداتها التي تهزّ عليه سرير نومه، فتوقظه.. تعقبها أصوات سيارات الإسعاف، والسيارات المرافقة، وهي تنقل جثث مَن ماتوا، ومَن اكتفى الانفجار بالجراح منه في مستوياتها كافة.
فإذا ما خرجتَ إلى الشارع قاصداً عملك، أو لشأن تحتّمه الضرورة (فالخروج للفسحة والتنزّه لم يعد وارداً!)، فإنك ستصادف ما أصبح يتكرر في أجندة أيامنا: شوارع مزدحمة بشكل غير مألوف، وللأمر "أسبابه الموضوعية"، فأما بسبب انفجار وقع، أو مرور مسؤول يعلو شأنه بعلو شأن العمل الذي ينتسب إليه. وقد يكون بفعل إجراءات "سيطرة طارئة" أخذت تتحكم بـ"نظام السير" الذي قد يتوقف لتبدأ "قوافل الأحياء" تتحرك إلى مقاصدها مشياً على الأقدام، ولا يهمّ "المعنيين" أن يلفّهم برد، أو يغسلهم مطر، أو تكويهم حرارة شمس صيفٍ تقارب درجاتها الخمسين...
هذه الحال، بوجهها المأساوي، تراجعت بحياة الانسان في هذا "البلد المسكين"، فإذا بشيخوخة الإحساس تداخله قبل شيخوخة العمر، وما تبقى له من أمل تراجع، ومن رجاء ينكسر. وإذا كانت أزمنة ماضية قد عرفت مَن "يعاقرون الخمرة"، فإنهم اليوم زادوا عدداً فأصبحوا أضعافاً، ولكنهم "يعاقرون الهموم والأحزان"، لا الخمرة.. فالحياة بالنسبة لهم أضحت محكومة بالمصادفة، وهذه وحدها هي ما يحرك الحياة من حولهم، أو يمنعها. أما حركات التفجيرات اليومية فهي تلتهم ما تبقى من "جمال المدينة"، وقد حكمت مسارات الحياة فيها "حواجز كونكريتية"، تنتجها الشركة "الأوسع استثماراً" في عموم العراق.
هل أردت القول، من باب تقرير الحقيقة والواقع: إن وجوه الشقاء أضحت عديدة، وإن الموت هو "الفعل المتطاول" على حياة الإنسان، وهو يمرّ بدورة مهلكة، أصبح، معها، لا يرى أفقاً مفتوحاً أمامه لحياة تحمل معنى الحياة، ومعها ضعف أمله في انبثاق "سلطة إنقاذ" (وهل لحياة أن تنبثق من واقع محترق؟). أما دور السلطة، فهو، لمَن لا يزال يسأل عن "دورها"، في أحد اثنين: إما سلطة الفوضى التي تشكل النظام الكليّ للبلد، أو سلطة الموت الذي طال الحياة بكل ما لها، وفيها، عشوائياً كان هذا الموت أم منظماً.
في هذا الواقع، يحاول الكاتب أن يكتب، فلا يجد أفق الكتابة ينفتح له إلا عن "تجليات صادمة"، وكذلك حال الرسام. أما المسرحيّ فيجد واقعاً مليئاً بالإنسان، في صيغة الجمع. ولكن أي إنسان هو اليوم؟ وكيف، وبماذا يفكر إذا أتيحت له فسحة تفكير؟ وماذا تبقى له في واقع عاجز عن أن يحميه؟ وماذا يمكن أن يُقدّم إلى واقع، وفي واقع، هو مسلوب الدور والإرادة فيه؟ إن الحياة من حوله تبدو خالية من أقلّ وأدنى ما يُحب وفيه يرغب، حتى لتجد مَن يقول لك بكلام يداخله اليقين: ما يجري في العراق اليوم هو عملية التفاف على إنسان العراق: ثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ووجوداً إنسانياً.. من أجل تغيير ذلك كله، باستبداله بما هو ميّت ولادياً، وليس بتطويره. فأما "ذوو السلطة والشأن"، فإنهم يهوون على كل ما تبقى من أمل لهذا الإنسان.
فمن أين الطريق؟ من أين الطريق إلى الخلاص؟
لا أريد أن أبدو متشائماً على الرغم من انعكاسات التشاؤم هذه بكلية حقائقها... ولكني أقول مع الشاعر الذي رأى أن حاجتنا ليست الى جُندٍ وأبطالِ... بل حاجتنا الأسمى إلى فِطنةِ زبّالِ.
وأن تكتب عمّا ترى، وتنطلق في ما تكتب من إيمان وقناعة، فذلك يعني أنك كاتب تقيم للحقيقة اعتباراً، وللتاريخ وزناً وأهمية، وتخشى أن يقول عنك الغد: "لقد كذب في ما كتب، وساير الزيف في ما رأى، واتخذ من الزائف مثالاً لتزييف الوعي في عصره، وناس عصره".
والمسألة، في الحالتين، ليست سهلة، وقد لا يدرك صعوبتها، بل خطورتها، كما يدركها كاتب يعيشها بتفاصيلها المفزعة. فالكاتب العراقي، اليوم، الذي يفتح عينه، حين يفتحها، على أيام مليئة بمآسٍ تسببها السلطة الحاكمة، وبانكساراتٍ ناتجةٍ عن سياستها، وعن الكيفية التي تدير بها أمور البلاد والعباد.
منذ أكثر من عشر سنوات، وهذا الكابوس يلازمنا، ونجده في كل يوم يتصاعد ليغدو أكثر حدّة وأشدّ عنفاً، وبحالات يأس أوسع، ومعه تبدو الأبواب مغلقة بوجه إنسان هذا "البلد المسكين"، باستثناء بابين ظلا مفتوحين له: باب الموت اليومي الذي يتشكل من الجريمة السياسية المنظمة والتفجيرات العشوائية التي أضحت تطال حتى المارة، وباب الهجرة الذي وجد فيه هذا الإنسان "طريق خلاصه"، فعبَرَ الحدود، وهو لا يدري إلى أين يمضي، وعلى أي دربٍ من دروب الغربة، وربما الضياع، ستمضي به خطواته اللائبة!
في عشر سنوات مرّت، وهي سنوات عُمْرٍ شقيّ، كل شيء تغيّر: فالإنسان الذي كان يستيقظ مع أضواء الفجر الأولى على أصوات العصافير وأغاريد البلابل، وهي تملأ فضاء حديقته المنزلية، وأطراف الشوارع التي تغصّ بالأشجار، تبدّل الوضع معه، فأصبح يستيقظ على دويّ الانفجارات، وارتداداتها التي تهزّ عليه سرير نومه، فتوقظه.. تعقبها أصوات سيارات الإسعاف، والسيارات المرافقة، وهي تنقل جثث مَن ماتوا، ومَن اكتفى الانفجار بالجراح منه في مستوياتها كافة.
فإذا ما خرجتَ إلى الشارع قاصداً عملك، أو لشأن تحتّمه الضرورة (فالخروج للفسحة والتنزّه لم يعد وارداً!)، فإنك ستصادف ما أصبح يتكرر في أجندة أيامنا: شوارع مزدحمة بشكل غير مألوف، وللأمر "أسبابه الموضوعية"، فأما بسبب انفجار وقع، أو مرور مسؤول يعلو شأنه بعلو شأن العمل الذي ينتسب إليه. وقد يكون بفعل إجراءات "سيطرة طارئة" أخذت تتحكم بـ"نظام السير" الذي قد يتوقف لتبدأ "قوافل الأحياء" تتحرك إلى مقاصدها مشياً على الأقدام، ولا يهمّ "المعنيين" أن يلفّهم برد، أو يغسلهم مطر، أو تكويهم حرارة شمس صيفٍ تقارب درجاتها الخمسين...
هذه الحال، بوجهها المأساوي، تراجعت بحياة الانسان في هذا "البلد المسكين"، فإذا بشيخوخة الإحساس تداخله قبل شيخوخة العمر، وما تبقى له من أمل تراجع، ومن رجاء ينكسر. وإذا كانت أزمنة ماضية قد عرفت مَن "يعاقرون الخمرة"، فإنهم اليوم زادوا عدداً فأصبحوا أضعافاً، ولكنهم "يعاقرون الهموم والأحزان"، لا الخمرة.. فالحياة بالنسبة لهم أضحت محكومة بالمصادفة، وهذه وحدها هي ما يحرك الحياة من حولهم، أو يمنعها. أما حركات التفجيرات اليومية فهي تلتهم ما تبقى من "جمال المدينة"، وقد حكمت مسارات الحياة فيها "حواجز كونكريتية"، تنتجها الشركة "الأوسع استثماراً" في عموم العراق.
هل أردت القول، من باب تقرير الحقيقة والواقع: إن وجوه الشقاء أضحت عديدة، وإن الموت هو "الفعل المتطاول" على حياة الإنسان، وهو يمرّ بدورة مهلكة، أصبح، معها، لا يرى أفقاً مفتوحاً أمامه لحياة تحمل معنى الحياة، ومعها ضعف أمله في انبثاق "سلطة إنقاذ" (وهل لحياة أن تنبثق من واقع محترق؟). أما دور السلطة، فهو، لمَن لا يزال يسأل عن "دورها"، في أحد اثنين: إما سلطة الفوضى التي تشكل النظام الكليّ للبلد، أو سلطة الموت الذي طال الحياة بكل ما لها، وفيها، عشوائياً كان هذا الموت أم منظماً.
في هذا الواقع، يحاول الكاتب أن يكتب، فلا يجد أفق الكتابة ينفتح له إلا عن "تجليات صادمة"، وكذلك حال الرسام. أما المسرحيّ فيجد واقعاً مليئاً بالإنسان، في صيغة الجمع. ولكن أي إنسان هو اليوم؟ وكيف، وبماذا يفكر إذا أتيحت له فسحة تفكير؟ وماذا تبقى له في واقع عاجز عن أن يحميه؟ وماذا يمكن أن يُقدّم إلى واقع، وفي واقع، هو مسلوب الدور والإرادة فيه؟ إن الحياة من حوله تبدو خالية من أقلّ وأدنى ما يُحب وفيه يرغب، حتى لتجد مَن يقول لك بكلام يداخله اليقين: ما يجري في العراق اليوم هو عملية التفاف على إنسان العراق: ثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ووجوداً إنسانياً.. من أجل تغيير ذلك كله، باستبداله بما هو ميّت ولادياً، وليس بتطويره. فأما "ذوو السلطة والشأن"، فإنهم يهوون على كل ما تبقى من أمل لهذا الإنسان.
فمن أين الطريق؟ من أين الطريق إلى الخلاص؟
لا أريد أن أبدو متشائماً على الرغم من انعكاسات التشاؤم هذه بكلية حقائقها... ولكني أقول مع الشاعر الذي رأى أن حاجتنا ليست الى جُندٍ وأبطالِ... بل حاجتنا الأسمى إلى فِطنةِ زبّالِ.