الكحكحة

الكحكحة

31 مارس 2018
(مقطع من عمل لـ دكستر كالوود، 2005)
+ الخط -

ليس بمقدور أيّ كان أنْ ينتزع، في المغرب، من ساكنة مراكش صفة مجتمع "التَّقْشَاب"، الصيغةِ التي على وزن "تَفعال" مثل "تَرْحال" ذات الاشتقاق العربي الأصيل من مادَّة [قشب]، التي تُفيد الخَلط والمزج من بين معان أخرى.

ولعلّ الإطلاق يُرَدُّ إلى خلط المراكشيين بين الجد والهزل في حديثهم، لرغبتهم في صبغ الأحاديث مرَحاً، وقد أخذ عليهم المغاربة ذلك حتى إنهم يُسارعون إلى طلب النكتة الطريفة والحكاية اللطيفة من المراكشي حيثما ثقفوه، لعِلمهم بأنه سيُضفي بهجة على اللحظة والمكان، ولذلك يُطلق المغاربة على المراكشيين نعت "البهجة" أو "البهجاويين" أيضاً.

ولا يُنافس المراكشيين في تقشابهم ومرحهم سوى أهل طنجة رجالاً ونساء، ممّن لا يفتؤون يضحكون في انبساط أينما كانوا، وكيفما كان الموقف، إذ يحدث أن تسمعهم يضحكون حتى في بعض جنائزهم ومآتمهم، بخلاف جيرانهم من تطوان الملتزمين برودةً ووقاراً معيَّناً.

يستحيل في طنجة ألّا يُصادفك الضحك والقهقهة وأنت تجوب شوارعها أو تجلس في مقاهيها التي يطبعها الضجيج والضحك. ويحلو لأهل المدينة أن يُسمّوا لحظات مرحهم بأوقات "الكَحْكَحَة"، فيقول لك صاحبُك قد "كحكحنا" أمس مثلاً، أو دَعْنا من "التَّكحْكِيح"، إذا أراد الجد.

ويبدو أن "الكحكحة" كلمة لا أصلَ لها في القواميس العربية ينسجم مع معناها المتداوَل، والأرجح أن تكون قد حُوِّلت الكاف فيها، في لغة الطنجيين، عن القاف في كلمة "قَهْقَه" العربية الفصيحة، مثلما تُحوَّل القاف لدى الأقحاح منهم إلى همزة، فيصير "القِطّ" عندهم "إِطّاً"، ويُستبعد أن تكون قد تسرَّبت إلى لغتهم من الإسبانية، التي بها فعل كَرْكَخيار Carcajear والمصدر كَرْكَخادَا Carcajada.

ولا يخفى أن الإسبانية هي التي استعارت الكلمة من الأصل العربي شأنَ آلاف الكلمات العربية التي طعَّمت القاموس القشتالي.

يدفع الشريف الزروالي السّبعيني الباب الزجاجي للمقهى بلطف، ويتقدّم في تؤدة ووقار نحو طاولته، معتمراً طاقية تخفي صلعته البيضاء مثل لون بشرتِه ناصعة البياض هي الأخرى، ومرتدياً جلباباً أنيقاً كعادته، وغالباً ما يكون ملتفعاً عُنُقه ليُخفي فتحة الصدر اتقاء للبرد. فإن لم يكن أحد من أصدقائه قد سبقه إلى المكان فإنه يجلس، ثم يقوم ملتمساً جريدة يزجي بها الوقت، ريثما تحضر شلّتُه.

عِندَها يتقدّم النادِل المختار جهته - وهو رجل أربعينيّ وأصلع، جَبليّ الطبع - ليُلبي طلب الشريف، فيستبق الزبونَ مرحّباً ويَسْرد له في الحين نكتة طرية عادة ما تكون ماجنة، ينفجر الشريف الزَّرْوالي في إِثْرها "مُكحكحاً" ملء رئتيه، كاسراً صمت المكان إذا ما كانت المقهى خالية، أو مغطِّياً على أصوات جماعة الرّكن الذي على يمين الداخل، التي تملأ المكانَ بضحكاتها المتقطّعة بين كحكحة وكحكحة.

كحكحة الشريف ليست قهقهة على الإطلاق؛ وإنما هي تقطُّع متواتر من القهَقْهَات، لا تختلف في شيء عن السير الشديد وما يكون فيه من "اصطدام الأحمال لِعَجَلة السير كأنهم توهّموا لِجَرْس ذلك جَرْسَ نغمةٍ فضاعفوه"، وفق ما أورد ابن منظور عن ابن سيدة.

يتلفَّتُ الوافدون الجُدد على المقهى ناحية الزروالي الذي لا يُبالي، ثم لا يمرّ وقت طويل حتى يلتحق به أصحابه فتكتمل الجوقة، ويضجّ المكان، وتشرع الكحكحات تُغطي حتى على أصوات "النقابيين" في ركنهم الذي احتلوه منذ أشهر، والذين يُبدون الامتعاض إذا ما وجدوه مشغولاً من قِبل زُبن جُدد.

لا شكّ في أن الكحكحة تراث غير ماديّ لأهل طنجة، وأنها فلسفة لديهم في الحياة؛ التي يَرَوْن أنها لا تستحق التجهُّم، لأنها قصيرة، ولأن فيها مباهج أحَقُّ بالاحتفاء والاغتنام.

والظاهر أن معاشرة الطنجيّين الأُصَلاء للغربيّين، خصوصاً الإسبان منهم لأزْيَد من قرن ونصف، مع ما يُعرَف عن الأندلسيين جيرانِهم من لهو وقصف وسخرية قد أعْدَاهم، فتطبَّعوا على الكحكحة، لكنَّ المؤسِف هو شروع هذه الخصلة في الزوال، فالهجرة الداخلية إلى طنجة، بسبب ما تعرفُه من نمو اقتصادي سريع، أدتْ في العَقد الأخير إلى غلبة الوافدين على المحلّيين، مما يُهدّد الكحكحة في وجودها.

دلالات

المساهمون