الكتب والكتابة: الجمال سيد المعنى

الكتب والكتابة: الجمال سيد المعنى

14 مارس 2016
جمالية فن الخط العربي (Getty)
+ الخط -
اقترن فن الخط العربي اقتراناً وثيقا بالحضارة الإسلامية كأهم محددات الهوية الفنية الإسلامية منذ قرون، حيث شكل إحدى أهم الصفات الجمالية والركائز الأساسية التي بُني عليها الفن الإسلامي والعربي لاحقا على امتداد تاريخ العالم الإسلامي. في البدايات اقتصرت مهمة الخط العربي على التوثيق الكتابي للإرث الإسلامي الديني والأدبي والاجتماعي. ومع دخول حضارات وثقافات عريقة من الأندلس شرقا حتى الصين غربا وإثنيات وأعراق مختلفة تحت مظلة العالم الإسلامي، تشكلت حاضرة استثنائية خصبة للتمازج والتجريب وتبادل الخبرات في كافة المجالات، بين تلك الحضارات، مما ساهم بشكل فاعل في إثراء الجمالية وأساليب التعبير الفني لدى المسلمين. كان التأثر الفني لدى المسلمين العرب مستنبطا من الفنون البيزنطية والساسانية على وجه الخصوص، ولكن سرعان ما نضج هذا التأثر وبدأ الفن الإسلامي بتشكيل هوية مستقلة خاصة به مستفيدا من حيز التجريب الواسع الذي مُنح له، فأخذت تشكلات الفنون الحِرفية الإسلامية بالانعتاق شيئا فشيئا من النسخ عن فنون الحضارات الأخرى، ومن الحصرية التي وضعت فيها كمُنتج حرفي لاستخدامات الحياة اليومية، إلى مُنتج ذي أبعاد جمالية مدروسة بدقة عالية محققة مكانة راقية بين فنون الحضارات الأخرى.

أهّلت اللغة العربية كونها لغة القرآن فن الخط ليكون أكثر الأساليب الفنية تجريبا وتعقيدا لدى الفنانين الحرفيين المسلمين، ففي الوقت الذي شكلت فيه اللغة ببعدها المعنوي والكتابي تحديا أمام الخطاطين، كونهم محدودين بفعل الكتابة، دفعتهم إلى الإبحار في عالم الإبداع لاستنباط جماليات مستحدثة اعتمدت على موضعة الحرف بتشكيلات بصرية متعددة، مما أخرج الخط من قالب حصرية التعبير المعنوي وأدخله صيرورة (المضمون والجمال) في التعبير الفني. توج هذا الاستحداث الإبداعي في إرث فني كبير تجلى في فنون الخط العربي، الذي لم يكن بدوره في منأى عن ذلك التطور والانعتاق الذي حظيت به الفنون الحرفية الإسلامية الأخرى، بل إنه تجاوزها بين كافة الفنون وأضحى أهم وسائل التعبير الجمالي. فجدران المساجد والقصور والبيوت على امتداد العالم الإسلامي تعج بتنوعات فنون الخط العربي، كما المنسوجات والأواني وواجهات المباني. ولعل من أهم تطبيقات فن الخط العربي، تلك التي زخرت بها صفحات المخطوطات وكتب العلوم والأدب والرحلات ونُسخ القرآن، والتي عكف خطاطو الثقافات الإسلامية المتنوعة على إبداعها كل منهم متأثراً بمرجعيات ثقافته البصرية في إنتاج نُسخ للقرآن تعبر عن ثقافته وحرفيتها، وبخطوط ذات شخصية تنبع من تلك الثقافة، فهنالك، وليس على سبيل الحصر، القرآن المكتوب بالخط الحجازي، والقرآن المكتوب بالخط الكوفي، وكذلك المكتوب بالخط المغاربي الحُرّ، وقرآن سمرقند، وغيرها الكثير من النسخ التي أبدعها أولئك الخطاطون ذوو الثقافات المختلفة.

لم يكن العرب ولا المسلمون وحدهم من افتتن بفن الخط العربي، فالغرب كذلك كان ولا يزال من المفتونين به، فالكثير من الفنانين المستشرقين استخدموا فن الخط في أعمالهم في تعبيرهم الساحر عن الشرق، ولكن بصورة جمالية بحتة، فالنظرة الاستشراقية المنقوصة، التي سيطرت على الفن المُعبر عن الشرق في نهايات القرن الثامن عشر، لم تلتفت إلى صيرورة المضمون والجمال في الخط العربي، بل حجزته داخل حيز التعبير البصري فقط، بحيث دفعتهم الجمالية الاستثنائية لهذا الفن إلى استخدامه بصورة تجريدية، كعنصر تجميلي يضاف إلى أعمالهم الفنية.

مع نهايات القرن التاسع عشر وظهور البوادر الأولى للفن العربي، الذي كان في مراحل التأسيس الأولى وتشكيل الهوية العربية الفنية، وجد الفنانون العرب ضالتهم في تحقيق هوية الفن العربية في الخط. ففي مرحلة ما بعد الاستعمار وانتشار فكرة القومية العربية في شتى صنوف الإنتاج الفكري والأدبي، وخاصة الشعر العربي الحديث، أخذت الفنون العربية بمعناها الواسع البصري والأدبي بالتلاحم والتماثل في ما بينها لتحقيق فكرة العروبة والقومية والهوية الواحدة. ومرافقة لذلك أخذت اللغة الفنية للفنانين العرب بالتوجه نحو المحلية، وتمجيد التراث والعروبية. ظهر هذا جلياً في نوعية المواضيع الفنية التي كانوا يستلهمونها في إنتاجهم البصري، والتي كانت كنوع من الامتداد للإرث الفني الإسلامي. أفرز التماثل بين الشعر والفن البصري مصطلح (الحروفية)، والذي أسس لأسلوب فني مستقل يعتمد الجملة الكتابية كعمل فني بذاته، أو عنصرا من عناصر العمل الفني، وبرع عدد من الفنانين العرب، سواء في الوطن العربي أو في العالم الغربي، في هذا الأسلوب الفني، وأضحى المنُجَز الحروفي العربي من أهم منجزات الحركة الفنية العربية، خاصة أن إدخال الجملة الكتابية على العمل الفني قد أثر بشكل مباشر في تسييس الجمال الذي كان ضرورة في مرحلة ما بعد الاستعمار.

ويمكن النظر إلى استحضار الحُروفية في الحركة الفنية العربية من عدة زوايا، بصرية كانت واجتماعية وسياسية. وبمرافقة توجه عدد من الفنانين العرب للدراسة في أكاديميات الفنون في الغرب، والاحتكاك المباشر بالحركات والتجارب الفنية العالمية، برز توجه جديد عن أولئك الفنانين، ( مثل الخطاط حسن مسعودي، وعمر النجدي، ومحمود حماد وإتيل عدنان وضياء العزاوي وغيرهم الكثيرون) تمثل في استحضار رمزيات التراث العربي العريق، وعلى رأسها فن الخط في أعمالهم الفنية ليحدثوا لأنفسهم مساحة خاصة تدل على عروبتهم على الساحة الفنية العالمية، مما يشكل هوية خاصة للمنتج الفني العربي، الذي يستخدم الجملة المكتوبة كعنصر تجريدي ذي معنى مطوع في العمل الفني.

من الميزات الاستثنائية، التي ميزت الإبداع العربي، كان التحالف والتكامل بين الشعر والرسم، ففي الوقت الذي كان فيه الشعر العربي الحديث، وخاصة في مرحلة إعادة التأسيس والصياغة للثقافة المحلية، أحد أهم الأدوات التي شكلت الفكر العام وشحذت الهمم تجاه تأصيل القومية وبناء الأوطان المستقلة، كان الفن البصري ما زال نوعا ما محصورا في طبقات نخبة المجتمع. حدث هذا التحالف بين الإبداعين لإيصال الفكرة إلى أوسع قاعدة شعبية ممكنة.

تجلت التكاملية بين الكلمة الأدبية والصورة في ما سمي (كتب الفنانين) التي كانت تنتج بعدة نسخ أصلية مرقمة وموقعة من الفنان، وأحيانا تتم طبعاتها ونشرها بأعداد كبيرة، والتي أتت على شكل تجارب بصرية اعتمد فيها الفنان على الشعر في تمثيل الحدث والفكرة بطريقة بصرية فذة، تأخذ القارئ من مستوى القراءة المحدد بالكلمة، إلى مستوى المشاهدة وتحوله من قارئ إلى مشاهد قارئ، مما يساهم في رفع مستوى التأثير عبر الصورة والكلمة المسيسة. ولعل أشهر هذه النماذج، التعاون الذي تم بين الفنان العراقي، ضياء العزاوي، وبين كلٍّ من الشعراء: الفلسطيني محمود دوريش، والمغربي الطاهر بنجلون، والعراقي يوسف الصائغ، في كتابه المعنون "النشيد الجسدي :قصائد مرسومة لتل الزعتر"، (النسخة الأصلية موجودة لدى المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة)، والذي تم نشره وتوزيعه بصورة واسعة واستلهم في إنجازه قصائد أولئك الشعراء التي عبرت عن مذبحة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، التي حدثت في أثناء الحرب الأهلية عام 1976، في سياق بصري تشكيلي مماثل للكلمة الساخطة بالصورة القاسية المعبرة عن فداحة المصاب.

من النماذج الأخرى التي تناولت الحروفية والنص في الفن العربي: إبداع الكاتبة والفنانة اللبنانية المقيمة في باريس، إتيل عدنان، التي تعد من الأصوات النسائية العربية المهمة على الساحة الأدبية والفنية العربية والعالمية. تميزت عدنان باستخدام النص كلغة بصرية ملونة في تقديمها لشعرها، مع استثناء مميز لقواعد الخط العربي الجمالية والتركيز على صدى المعنى واللون والتشكيل، مثل ما احتوى عليه كتاب "أمل لا شفاء منه" الصادر في 1987 لفواز طرابلسي، أو عبر كتبها الشخصية المصممة على شكل (أكورديون) المتأثرة فيها بالفن الياباني، عبر خلق توازن تناغمي بين اللون والنص، مستفيدة من خبرتها وثقافتها الفنية الثرية، التي استحوذت عليها خلال ترحالها في أنحاء العالم.

بالإضافة إلى كل من ضياء العزاوي وإتيل عدنان، ظهرت تجارب عربية كثيرة ولّفت بين الحروفية والفن، مثل تجربة كلٍّ من الكاتب السعودي، عبد الرحمن منيف مع الفنان السوري مروان قصاب باشي، وتجربة الشاعر السوري أدونيس مع الفنان العراقي هيمت علي، وكذلك تجربة الفنان الجزائري رشيد قرشي مع محمود درويش، أو حتى استلهام نصوص الحضارة الإسلامية، مثل ما قام به الفنان الجزائري عبد الله بن عنتر من استلهام أشعار عمر الخيام في كتبه الفنية، وغيرهم الكثير من الفنانين والكتاب والشعراء العرب.

هذا ولم يقتصر استخدام الحروفية عند الفنانين العرب على الرسم ذو البعدين، بل إن الفن المعاصر العربي، وعبر تجارب عديدة لفنانين شباب، حوّل الجملة المكتوبة إلى جملة نحتية ثلاثية الأبعاد وبمواد مختلفة، إما بصورة تحتفظ بسياق النص والمعنى، أو بجمل تجريدية سيطرت فيها تشكلات الحروف وموضعتها على المعنى، بل همشته واستجلبت المعنى البصري على حسابه، كمعنى لغوي مثل أعمال الفنان والخطاط العراقي، صباح الأربيلي، المعروضة على كورنيش مدينة الدوحة في الفضاء العام.

مما لا غبار عليه أن الاستثنائية التي صبغت المنتج العربي (البصري الأدبي) أتت من جماليات الخط العربي المتراكمة عبر قرون طويلة من البحث والتجريب والإبداع، والتي أخرجت فعل الكتابة من جموده المادي وارتفعت به إلى مصاف الجمالية التخيلية، التي تعطي النص المكتوب بعدا فلسفيا يتمازج فيه الوقع البصري مع المعنى. كما أن دمج النص بالرسم غير الصورة النمطية الموجودة عن فن الخط العربي، كفن حرفي تراثي، إلى صورة مرنة محفزة للتفاعل بين القارئ وبين النص المكتوب. ومما لا شك فيه أن الحروفية أعطت بعدا جديدا للكتاب العربي، يتعدى الصفحات البيضاء المكتوبة بالحبر الأسود، وأسست لخط فني جديد يقدم الفن من خلال الكتاب.

(مؤرخ فني وأكاديمي فلسطيني)

دلالات

المساهمون