الكتاب الجزائري في مضيق النشر العشوائي

الكتاب الجزائري في مضيق النشر العشوائي

24 اغسطس 2015
مكتبة في صومعة "بير فوكو"، تمنراست الجزائر (تصوير: ريزا)
+ الخط -

تكفي جولةٌ قصيرة بين مكتبات الجزائر العاصمة لتضعك أمام حقيقتين: تراجع عددها، بعد إغلاق بعضها وتحويل بعضها الآخر إلى محلاتٍ لبيع الملابس أو الأطعمة السريعة، وعدم توفّر كثير من الكتب التي قد يرغب أيّ قارئ مُفترض في اقتنائها.

باتت المدينة التي كانت تضمّ الكثير من المكتبات بين الستينيات والثمانينيات، تُعَدّ مكتباتها على أصابع اليد الواحدة، منذ "العشرية السوداء". يرتكز معظمها في وسط العاصمة الموروث عن الفترة الاستعمارية، بينما لا يكاد كثير من الأحياء والمدن الجديدة التي بُنيت بعد الاستقلال يعرف شيئاً اسمه مكتبة.

نتحدّث، هنا، عن العاصمة، أمّا المدن الداخلية، والجنوبية منها على وجه الخصوص، فالمكتبة فيها ضرب من الرفاهية لم يتحقّق بعد.

سعت السلطات إلى حلّ تلك المشكلة، عبر عددٍ من الأفكار والمشاريع؛ كتوفير مكتبات متنقّلة عبر المحافظات، وإنشاء مكتبات جوارية، ضمن مشروع أُطلق في عهد وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي، باسم "مكتبة في كل بلدية"، عُني بفتح مكتبات في المدن والقرى الداخلية، لتوفير الكتب وتشجيع الناس على القراءة، غير أنه عَرف العديد من العثرات، ولم يحقّق نتائج عملية على أرض الواقع.

أمّا نقص الكتاب الذي لا يعكس حركية النشر الموجودة في البلاد منذ قرابة عشر سنوات، فيتعلّق أساساً بمشكلة التوزيع، والقيود المفروضة على استيراد الكتب. فالجزائر واحدة من الدول التي لا تشجّع دخول الكتاب الأجنبي. هكذا، أصبح معرضها الدولي للكتاب فرصة سنوية للتجّار الذين يحوّلونه إلى بازار كبير لشراء الكتب بالجملة، لإعادة بيعها بالتقسيط في ما بعد.

يعترف الفاعلون في قطاع الكتاب، من كتّاب وناشرين، أن النشر بعد 2007 لم يعُد كما كان قبلها. في تلك السنة التي احتضنت الجزائر احتفالية "عاصمة الثقافة العربية"، نشرت وزارة الثقافة في إطارها ألف عنوان بدعم من رئيس الجمهورية، الذي طلب منها استمرار النشر بتلك الوتيرة كلّ سنة.

يشكلّ ذلك الرقم الكبير مصدر اعتزاز للقائمين على قطاع الثقافة، إذ يفخرون بأن الدولة تموّل نشر الكتاب. غير أن الواقع يؤكّد بأن الآثار الجانبية لذلك المشروع أكبر بكثير من فوائده. فَتَح التمويل الحكومي شهيّة الكثيرين، بمن فيهم الدخلاء على القطاع، فتضاعفت دور النشر بشكل قياسي في وقت وجيز، وبات وجود معظمها مرتبطاً بدعم الوزارة.

برزت ظاهرة "الناشرين الوهميين" وغاب سؤال المضمون، إذ إن نسباً كبيرة من الكتب المنشورة بتمويل من وزارة الثقافة هي كتبٌ قديمة يُعاد نشرها، فقط، من أجل الحصول على مقابلها المادّي، وأحياناً يكتفي ناشروها بمجرّد تغيير أغلفتها.

كذلك، شجّع التركيز على الكمّ وتغييب الكيف، على استسهال النشر، وساهم في إصدار الأعمال الرديئة، وبدا كما لو أن القائمين على الثقافة قلبوا شعار "القراءة للجميع" ليصبح "الكتابة للجميع". حتّى أن بعضهم علّق ساخراً من هذا الوضع بالقول إن تأليف كتاب في الجزائر أصبح أسهل من تحضير "قلب اللوز"! (حلوى جزائرية تقليدية).

الغريب أن برنامج الدعم تستفيد منه أيضاً دور نشر كبيرة، بما فيها مؤسّسات حكومية، يُفترض أنها قادرة على نشر الكتاب دون انتظار أموال الدولة، بينما لا يستفيد الكاتب شيئاً. كثير من الكتّاب لا يحصلون حتى على حقوق المؤلّف الزهيدة أصلاً.

إضافة إلى ذلك، يبقى نقص التوزيع، وغيابه أحياناً، أحد المشكلات الأساسية التي تعترض سوق الكتاب، دون أن تُفهم أسبابه، فعدم وصول آلاف الكتب المنشورة إلى القارئ وبقاؤها مكدّسة في المخازن، يعني في النهاية بأن عمليّة النشر برمّتها لا تتجاوز مرحلة "الطبع".

وأمام ذلك التهافت، تسجّل دور النشر الجزائرية غياباً تامّاً عن مختلف المعارض العربية والأجنبية رغم إمكاناتها. قبل سنتين، وعدت "الوكالة الوطنية للنشر والإشهار" بالترويج لأعمال تلك الدور، والمشاركة بها في معارض الكتاب خارج الجزائر، لكن لا شيء من تلك الوعود تحقّق. لم تُوزّع الكتب في الجزائر العاصمة، فضلاً عن المدن الداخلية، ولم تُشارك إلاّ في معرض أو معرضين.

النتيجة هي استمرار تكريس الأسماء القديمة التي فرضت نفسها بـ"التقادم"، وعدم اكتشاف أسماء جديدة في الأدب وغيره. لا يزال الخروج من القوقعة الجزائرية مشروطاً بالنشر في القاهرة وبيروت أو في باريس بالنسبة الى الكتّاب باللغة الفرنسية.

كان ذلك تحديداً ما حدث مع أحلام مستغانمي التي نشرت روايتها "ذاكرة الجسد" في الجزائر مطلع التسعينيات، لكن العمل بقي في الأدراج ولم يلتفت إليه أحد، ثم تغيّر كل شيء عندما نُشر في لبنان. وهذا المثال ينطبق على أسماء كثيرة أخرى.

يفسّر الكاتب والمترجم، السعيد بوطاجين، هذا الوضع بكون "الكتاب يقع خارج أولويات الدولة، ولم يكن يوماً ضرورة ملحّة، بدليل السياسة المنتهجة وميزانية النشر المتواضعة، مقارنة بقطاعات أخرى أقل قيمة من حيث الفعالية الحضارية".

يضيف: "لا نملك خطة واضحة في هذا المجال، ولم يحدُث أن كان هناك برنامج لترقية النشر والتوزيع، لا سيما إلى القراء والمؤسّسات خارج الوطن".

يشخّص صاحب "اللعنة عليكم جميعاً" أزمة التوزيع بالقول إن "دور النشر تتعامل مع الكتاب مثل بضاعة، ولا تهمّها سوى العائدات السهلة، دون خسارة تتعلّق بالإخراج والإشهار والتسويق وحقوق المؤلّف. الأغاني الفاشلة أكثر حظّاً وقيمة. أمَّا الكتاب فعليه أن ينتظر وقتاً آخر".

أمّا الروائي لحبيب السايح، فيقول: "لا أعرف في الجزائر دار نشر محترفة تحترم الكاتب الذي تتعامل معه وتأخذ في الحسبان القارئ الذي تُوجّه له المنتوج؛ باعتبار الكتاب سلعة يجب أن تخضع إلى معايير الجودة والصنعة".

يضيف صاحب "الموت في وهران": "دور النشر الجزائرية، كلها وبلا استثناء، تتعيّش على الدعم من المال العمومي، أو من جهات ذات مصالح لغوية وثقافية في الجزائر". ويتابع: "إن هذا الوضع المزري كثّف هجرة الكتّاب الجزائريين نحو دور المشرق، لأن من حق الكتّاب أن يجدوا لهم صدى الاعتبار والانتشار".

يؤكّد السايح أن "عجزنا عن تسويق الكاتب والكتاب الجزائريين خارج الجزائر راجع إلى تخلّي الدولة والجامعة والإعلام الثقافي عن الإبداع الجزائري المعاصر".

أما الروائي إسماعيل يبرير، فيؤكّد أن عدم وصول الثقافة الجزائرية إلى المشرق لا يعني أنّها أقل شأناً من غيرها، بل لأن "القائمين عليها إداريون وبيروقراطيون ينظرون إليها كترف وأحيانا كشذوذ". يضيف: "لم ينل الكتاب يوماً عناية الدولة، بل تمّ إغراقه في ما يسمى الدعم".

المساهمون