القضية وما تحتاجه من قوة

القضية وما تحتاجه من قوة

25 يوليو 2019
ناجي العلي
+ الخط -

صحيح أن الثقافة العربية تعرّضت لتجريف وتدجين عبر عقود من الاستبداد، لكن هل من سبيل لاستعادة الميزان القيمي والأخلاقي والتحرري الذي يفترض بالثقافة أن تمثله؟

لا بد هنا من التذكير ولو بصفة موجزة ببعض معطيات علاقة المثقف العربي بالقضية الفلسطينية. فلا ننسى أن العلاقة بين الطبقة السياسية الحاكمة أساساً والقضية الفلسطينية تتلخص في استعمالها دائماً كورقة داخلية أو خارجية لتركيز سلطتها والحفاظ عليها بشتى الوسائل. لذلك كنتُ وما زلت أؤكد أن القصية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني قبل كل شيء وهي أيضاً قضية عربية وقضية عالمية إنسانية.

أما علاقة المثقف بهذه القضية فهي على نوعين؛ فإما أن تنحو منحى السلط الحاكمة في استعمالهم للقضية الفلسطينية وهذا هو حال المثقفين المتحزبين، وهم في النهاية تابعون للسلطة بشكل من الأشكال، وهناك المثقفون المستقلون، بيد أن كثيراً منهم يعيش داخل الأوطان العربية أوضاعا مثل القهر والاستبعاد واللامبالاة، فكان على هؤلاء النضال اليومي للتشهير والنقد والتشخيص والتنظير.

قناعتي أن النوع الثاني من المثقفين العرب الذين أسميهم بالمثقفين النقّاد هم الذين يحملون على أكتافهم هموم القضايا العادلة في العالم وأساساً قضية الشعب الفلسطيني بجانب قضايا شعوبهم. ولست مقتنعاً أن الثقافة العربية التي تعرّضت لتجريف وتدجين عبر عقود من الاستبداد كانت صامتة وغير قادرة على تحريك السواكن لأنها لعبت وهي في القهر والظلم ورغم أنف السلط دورها في التشهير بالعنف والمظالم والقهر وشتى أنواع التعذيب التي سلّطتها الدولة الإسرائيلية المستعمرة ومن ورائها الصهيونية العالمية على الشعب الفلسطيني الجريح.

يبقى السؤال: أية مسؤولية ملقاة على عاتق ثقافتنا والفاعلين فيها في مواجهة تصفية القضية الفلسطينية وترسيخ المشروع الصهيوني في المنطقة؟ أعتقد أن المسؤولية تقع أساساً على السياسيين العرب، فهم الذين تخاذلوا وفرطوا بأوطانهم وضمائرهم من أجل أن يحافظوا على مواقعهم.

ومسؤولية الصنف الأول من المثقفين التابعين للسلطة كبيرة أيضاً لأنهم يبررون خيانة أسيادهم بكل وسائل السفسطة وحتى الذين لم يقوموا بذلك فقد صمتوا وصمتهم رمز خيانتهم. أما الصنف الثاني الذي يصارع التسلّط والاستبداد فعليه المزيد من التشهير والنضال اليومي حتى وإن ظهر له أنه يحفر في الماء فالصمود والنضال والمقاومة كل ذلك لا يعطي ثماره في التو بل سيُنتج شيئاً فشيئاً أسباب النجاح والنصر.

كانت "ورشة البحرين" محاولة جادة لتصفية القضية الفلسطينية يمكن أن نقارنها رمزياً بمحاولة تصفية الهنود من القارة الأميركية. والجديد هنا أن أنظمة عربية رجعية شاركت في هذه المحاولة، وهذا ليس بغريب عنها إذ تواطأت في ما سبق على تدمير العراق وبعدها لم تتوان عن تدمير سورية، وتفعل الأمر نفسه في اليمن وليبيا، ولو كانت لها القدرة لفعلت ذلك في بلدان عربية أخرى منها تونس والجزائر.

على الثقافة العربية الآن أن تمر إلى مستوى آخر من النضال حسب رأيي. فالصهيونية تشتغل بأساليب سفسطائية لإقناع السياسيين الغربيين والطبقة المثقفة في الغرب بأن اليهودي هو ضحية أكبر عملية إبادة في تاريخ الإنسانية وبذلك هيمنوا ويهيمنون على جزء كبير من الساحة الثقافية والإعلامية في الغرب، بينما أن ما يقترفه الإسرائيلي في فلسطين هو أضعاف ما اقترف في حقّ أسلافه في أوروبا.

كلنا نعرف أن أكبر عملية إبادة شهدها التاريخ هي التي طاولت سكان قارة كاملة هي قارة أميركا، ولما لم يكن هناك مثقفّون يرفعون صوت تلك الشعوب فمرّت الإبادة في صمت، عن مثل ذلك ينبغي أن يتحدّث المثقف، عن جريمة الاحتلال في فلسطين كي لا يحدث أن تمرّ في صمت.

شخصياً، أعتقد أن أدوات المثقف العربي يجب أن تتنوّع. فلا يكفي التشهير والمواقف والعواطف وإنما ينبغي أن يتمّ الانتقال من فعل الوجدان إلى قوة البرهان ومن سحر البيان إلى فهم الرهان. فمثلاً علينا الآن تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية وبناء الرمز الممكن للفلسطيني لا كمتشرد بل كضحية لعملية إبادة كبرى.

كذلك علينا القيام بتأريخ لعمليات الإبادة في العالم وتحديد موقع إبادة الشعب الفلسطيني منها. يجب تحريك سواكن المثقفين في العالم ليفهموا أنهم شهود الآن على ما هو أكبر وأخطر من إبادة اليهود من قبل النازية والفاشية والتي تعتبر في الغرب كإحدى أعظم معضلات التاريخ الأخلاقية.


* مفكّر تونسي

المساهمون