Skip to main content
القروض في الجزائر: كيف يتحوّل رجل الأعمال إلى مُجرم؟
نصر الدين حديد
(في الجزائر العاصمة، تصوير: فايز نور الدين)

لم تعد جرائم السّرقة، والقتل، والاتجار بالمخدّرات، وحدها تجرّ الشّباب إلى السّجن؛ فقد أصبح للقروض البنكية في الجزائر حصّة كبيرة من عدد الذين يقبعون خلف القضبان، بتهمة الطّموح في خلق مشاريع تكفل لهم تحسين أوضاعهم الاجتماعية، وتنتشلهم من عالم البطالة، ولكن القروض البنكية وفّرت لهم النّهاية، قضاء ما بقي من بطالتهم في السّجن والملاحقات القضائية، والنتيجة حسب آخر الإحصاءات الرّسمية، هي 25 ألف شاب جزائري في السّجن بسبب عجزهم عن دفع ديونهم، و23 ألف شاب متابع قضائياً.

قبل أيّام فقط؛ تناقلت وسائل إعلام محلية تصريح وزير العمل والتّشغيل والضّمان الاجتماعي، محمد الغازي، هدّد فيه صراحة الشباب المتخلّفين عن تسديد ديون الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب بالسّجن، في ندوة صحافيّة عقدها في افتتاح الطبعة السادسة لصالون التشغيل، مبرّراً أن وكالة دعم تشغيل الشّباب أمهلتهم مدة كافية ولن تستمر في الصّمت عن تماطلهم.


مشروع مجرم
هؤلاء الشباب الذين يقبعون اليوم في السّجن، كانوا في يومٍ ما، مشاريع رجال أعمال يديرون مؤسسات اقتصادية وتجارية، ويحلمون بتطوير تجاربهم ومهاراتهم، ولكن القّروض البنكيّة حوّلتهم إلى مشاريع مجرمين في السّجن، والسّبب أنهم حاولوا وفشلوا في تحقيق أهدافهم، وربما؛ لو أنهم حظوا بفرصة أخرى تكفل لهم المرافقة والتوجيه والتّبني، لوجد هؤلاء طريقهم إلى النّجاح وسط "بارونات" الرأسمالية "المتوحشة"، إذ ماذا ستستفيد الحكومة من سجن هؤلاء الذين عجزوا عن دفع ديونهم؟ وهي تعلم أنّ عدداً منهم يملك مؤهلاتٍ وخبرات يمكن الاستفادة منها في سوق العمل؟ هل ستسترجع البنوك أموالها بسجن هؤلاء؟

"البحبوحة المالية" التي عاشتها الجزائر في السّنوات الأخيرة، نتيجة ارتفاعٍ ملحوظٍ في أسعار النّفط، وفي ظلّ غياب دراسات استشرافية لبناء قاعدة اقتصادية قويّة من جهة، ورغبة السّلطة في امتصاص غضب الشارع و"شراء السّلم الاجتماعي" من جهة أخرى، خلقت الحكومة عدة صيغ، تتيح للشّباب الاستفادة من قروض بنكية، تُمكّن المستفيد من الحصول على مختلف الأجهزة، والآلات صناعية، وشاحنات نقل البضائع مباشرة من الموزّعين حسب النّشاط التجاري، على أن تتكفّل البنوك بكل النّفقات، ومن بين أشهر الصّيغ التي يستفيد منها الشّباب؛ هي "قرض المؤسّسات المصغّرة"، والذي تمنحه الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب، وتعرف باسم "أونساج"، أما الصيغة الثانية فهي "كناك" أو "قروض الشركات المتوسطة"، تمنحه الوكالة الوطنيّة للتّأمين عن البطالة، ولكن مع انخفاض أسعار النفط مجدداً، وظهور بوادر أزمة اقتصادية تلوح في الأفق، سارعت الحكومة إلى المحاكم لتحصيل ما يمكن تحصيله بالعقوبات الرّدعية ضدّ المستفيدين.


القرض وصندوق الانتخاب
يتذكّر كثير من الجزائريين في الانتخابات الرئاسية السّابقة، كيف احتفل شباب في الشارع، بفوز رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، كانوا يجوبون الطرقات بمركبات حصلوا عليها عن طريق "قروض الدّولة"، وقد تعالت هتافاتهم بمسح ديون "أونساج".

ونقلت هذه المشاهد القنوات العمومية الجزائرية، في إشارة واضحة إلى أن السلطة وظّفت ورقة القروض لشراء الذمم وكسب تعاطف شريحة واسعة من الشباب مع ما يسمى بـ "برنامج رئيس الجمهورية".

يعيش كثير من الشباب الجزائري، على أمل أن تقوم الدّولة بمسح ديونه العالقة على البنوك، فقد اعتادوا أن تقوم السّلطات بمسح ديونهم في المواعيد الانتخابية، وتوظّف ورقة "القروض" سياسياً لصالحها، مثلما حدث في رئاسيات 2009، عندما أعلن الرئيس بوتفليقة عن مسح ديون الفلاحين التي بلغت 40 مليار دينار جزائري آنذاك في إطار ما سمي بـ "الدعم الفلاحي"، وهذا ما يفسّر تعامل عدد من الشباب مع القروض التي يحصلون عليها بنوع من الاستهتار.


مسألة ثقافة
يربط الخبير الاقتصادي عبد المالك سراي، سبب فشل مشاريع الشّباب المستفيد من القروض البنكيّة، بمشكلتين هما الثقافة والتكوين؛ فالأولى يفسّرها سراي في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، بأن المستفيد من القرض لا يملك ثقافة استثمارية وضميراً مهنياً، يمكّنانه من خوض هذه التجربة بكثير من الحذر والمسؤولية، وهو ما جعل بعض المستفيدين يبيعون الأجهزة والآلات التي حصلوا عليها عن طريق القرض لشراء سيّارات أو تصفيتها تمهيداً للفرار نحو الخارج.

أما المسألة الثانية، يضيف المتحدث؛ فهي حصول شباب على القرض، بدون مؤهلات علمية ولا شهادات في مجال التخصّص، محملاً المسؤولية للحكومة في مرافقة هؤلاء الشباب، بورشات تكوينية وتربّصات طويلة المدى قبل أن تمنحهم هذه القروض.

ويستشهد الخبير الاقتصادي بالحالات التي وقف عليها، أثناء عضويته في لجنة إحياء الصّناعة الوطنية، حيث تمّ منح قرض كبير لأحد المستفيدين بقيمة 130 مليون دينار جزائري، تبيّن في الأخير أن المستفيد لا يجيد القراءة والكتابة أثناء توقيعه على العقد مع البنك، وهو ما دفع باللجنة إلى التّراجع عن قرارها.


عبودية بالتراضي
قبل أيام قليلة فقط، خرج عدد من الشّباب المستفيد من قروض "أونساج" بشوارع مدينة المسيلة شرق الجزائر، بسبب إسقاط أسمائهم من قائمة المستفيدين من السكن الاجتماعي، ولم يشفع لهم التزامهم بتسديد ديونهم للبنوك في الاستفادة من السّكن، ورأى كثيرون هذا الإجراء بأنه يضع الشّاب الجزائري بين خيارين: الحصول على مأوى، أو الحصول على مشروع؟

أن يبقى العامل رهينة الوظيفة التي يشغلها، هو أحد الشّروط التي تُلزم المستفيد قبل الحصول على القرض، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بالقروض المخصصّة للعقارات والسيّارات، لأن البنك يقوم باقتطاع جزء من راتبه في كل شهر، وبهذه الطريقة فقط، يضمن المُقرض حصوله على مستحقّاته، ويتحمّل الموظّف وحده تبعات هذا القرض بالبقاء في وظيفته، ويدخل في حيّز "العبودية" التي تتمّ بالتراضي بين الطرفين.

الشاب زهير، مهندس في البرمجيات، أحد الذين استفادوا من سكن بصيغة البيع بالإيجار "عدل"، وبعد انتهاء عقد عمله الذي يربطه بإحدى الشّركات، توّجه للحصول على وظيفة أخرى وبراتب أقل، خشية أن يسقط اسمه من قائمة المستفيدين من السّكن. يوضّح في حديث إلى "جيل العربي الجديد" أن العمل الحرّ في مجال البرمجيات خارج عقود التوظيف يدرّ عليه مالاً أكبر بكثير من الراتب، ولكنه يخشى أن يتمّ استدعاؤه مرة أخرى، من طرف المؤسّسة التي منحته القرض لإثباته مزاولة وظيفته، مثلما حدث معه قبل أشهر، حين تلقّى استدعاءً من طرف الوكالة الوطنية للبيع بالإيجار، تطلب منه إحضار نسخ من "كشف الراتب" للأشهر الثّلاثة الأخيرة.


حالة صحيّة
يتّفق المحلّل الاقتصادي عبد الوهاب بوكروح، مع سراي في مسألة التّكوين، ويؤكّد أن لجان وكالة دعم الشّباب، لا يشترطون شهادات تأهيل على المستفيدين من القروض، مضيفاً أن خلق مؤسسات مصغّرة عن طريق قروض "أونساج" وضع صحيّ للاقتصاد الوطني، وبإمكانه خلق قاعدة اقتصادية قويّة للبلاد، مستشهداً: "كبريات الدول الصناعية، يقوم اقتصادها على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي تساهم في خلق الثروة بضغط أقل"، ويعتبر بوكروح في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، أن المؤسّسات الكبيرة دائماً تمتلك مشاكل كبيرة، وأن التوجّه إلى صيغ القروض للشّباب مشروع ينقصه التّأطير على حدّ تعبيره.

صحيح أن القّروض التي استفاد منها الشّباب الجزائري، قروض ميسّرة، وتتيح تسديد الديون بالتّقسيط بعد ثلاث سنوات من منحها، مع الإعفاء من الضّرائب والرّسوم طيلة السّنوات الأولى، ولكنّ النشاطات التّجارية، والتّي حصل بموجبها شباب على القروض كانت "متشابهة" في الغالب، وتسبّبت في حالة من "الإشباع" في سوق العمل، وسجّلت فشل كثير من المشاريع لعجز أصحابها على المنافسة، ما أدّى في النّهاية إلى إسقاط كثير من النشاطات التّجارية من قائمة مِنح القروض، منها مشاريع مقاهي الإنترنت ووكالات شراء السيّارات وسيارات الأجرة، الأمر الذي دفع بكثير من الشباب إلى تغيير ملفّاته للاستفادة من أيّ قرض، حتى لو كان المشروع خارج دائرة اهتماماته.