القدس... ميراث الصمود والدم

القدس... ميراث الصمود والدم

18 فبراير 2020
+ الخط -
تحمل مدن الأرض ميراثًا متنوعًا مما مرّ عليها وفيها، هو إرثٌ تلعب فيه الذاكرة والتاريخ ألاعيبهما، ويمتد في جذوره إلى كل منجزاتها الحضارية، وما خلفته فيها من أوابد وبناء، وصولًا إلى ما بقي من أطلال الذاكرة، يختزنها الموروث الشعبي من عادات وتقاليد، ومن عمّر من أهلها، يسرحون في أحاديث الماضي الجميل، والأيام التي ما عادت، والبركة التي اضمحلت، أما في شرقنا الذي يرفل في تعاسته، ينضم إلى هذه التركة الفكرية، ما يعيشه أبناؤها من آلام ويكابدونه من هموم، تضمخه روائح الموت، وقطرات من دماء الشهداء، وعلى الرغم من هذه المعاناة، تستطيع بعض هذه المدن تجاوز هذه الضغوط، وتنهض من بين ركام المحنة مرة أخرى، ولكنها في حالات قليلة جدًا، تظلّ هذه الصورة قابعة في واقع المدينة وأفقها، فلا تزداد أعوامها إلا كلمًا للجراح، وفتقًا للذكريات القاتمة.

وفي مقدمة هذه المدن التي ينوء كتفها بما تمتلكه من إرثٍ عظيم هائل مدينة القدس، إذ تعيش المدينة تناقضًا لا تجد شبيهًا له في مدن الأرض، فهي من جهة واحدة من أقدس المدن على وجه البسيطة، ولها تقديرٌ دينيّ وإنسانيّ غير محدود، وتضم في داخلها معالم دينيّة وحضارية، إضافةً إلى تاريخٍ هائل من التفاعل مع المحيط، والتراكم الفكري والعلمي داخلها، وهو ميراث سيشاهده زائرها في كل زقاق وشارع، بل ترك بصمةً على حجارتها منقوشة بلمسات العابرين، وأنفاس الربانيين، وكم ترتسم في خيالاتنا أطياف العلماء والدعاة الذين جابوا أنحاء المسجد الأقصى، وكم احتضن هذا المسجد من حلق للعلم، وكم صلى في رحابه من أمراء البيان وفرسان السيف والكلمة.


أما على المقلب الآخر، تعاني المدينة منذ نحو سبعين عامًا واقعًا مؤلمًا مصطخبًا بالمعاناة والضيم، ومزيجًا من الصمود الأسطوري الذي يسطره أبناؤها في كل ميدان ومحطة، وبين واقع التهويد والأسرلة الذي يضج به كل مفصلٍ من مفاصل هذه المدينة، وتعترك في أنحائها أحداث ما يجري من مشاريع ومخططات، تطاول كل ميادين المعركة مع المحتلّ الغاشم، فيتزاوج ميراث المدينة بين هذين الواقعين، ميراث الحضارة والثراء الفكري والإنساني من جهة، وميراث الصمود الذي يضمخ بدماء الشهداء الأبطال، وعبق الثوار والمرابطين في أرجاء المسجد الأقصى وأكنافه.

ولا أزعم أن هذه الحالة بالغة القتامة، وأن التباين بين الميراثين هو تناقض فج، إذ يكتنف في تفاصيله وبين حيثياته نموذجًا لمدينة تأبى الموت، وتناضل في سبيل الحرية، فهي تحتضن شعبًا قادرًا على المواجهة، يبدع كل حينٍ طرق النضال، من صلب الوجع وما يكابده من حصار، فهم على غرار ما ذكرته الأساطير الماضية، عن ذلك الطائر الفريد، الذي ينبعث مجددًا من رماد احتراقه. شعب ليس من أساطير الأولين، ولكنه يقف منفردًا في وجه احتلال، تتسابق دولٌ وأنظمة لتخطب وده، فاستطاع تحقيق المعجزة في زمنٍ انقطعت فيه الخوارق.

ولكن هذا الإرث الهائل من الصمود والتضحية لا يمكن إلا أن يرافقه ثمنٌ باهظ، يبدأ بالمسكن والموئل، والتنازل عن أجزاء من العمر في المعتقلات، ولا ينتهي بتقديم الدماء الزكية الغالية، فهو صمود ضمخ بأعز ما في هذه الدنيا، فالروح التي تقدم دفاعًا عن الأرض، وفي سبيل حماية الأقصى، هي روحٌ سامية علوية، تتشابك أرواح الشهداء، وترقب القدس من علياء الخلود، من هناك بدأت المسيرة، وإليهم ستنتهي، طريقٌ لا يعرفه الظالمون، وخلود لا يكدر صفوه موت، وقوافلهم تتابع لا تتوقف.

وهنا تتضح لنا فكرة بالغة التجرد، أن الدماء هي التي ترسم خريطة التحرير، وأن ميراث الحضارة والقداسة ليس خرافة أو نصوصًا يتيمة ترددها الألسن في محاريب العبادة، أو في أطروحات معابد الأكاديميا، بل هي نماذج حية من المقاومة والتصدي، تُخط بمدادٍ لا أرفع من شأنه، ولا أكون منحازًا إن قلت بأن شعوبنا العربية وفي عمقها الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب الأرض ثباتًا عند اللقاء وتضحية إن حمي الوطيس، وقوةً في مقارعة الأعداء، وهي أمور لا تحتاج دليلًا، فالتاريخ مشبع بها مليء بصورها، ولكن مصدرها إيمان عميق بالحق.

أخيرًا، وفي ظل المنعطفات الحادة التي يريدها أشياع الخريف في أمتنا، يجب ألا يظل المقادسة وحيدين في المعركة مع المحتل، إذ لا بد من توافر الظهير الداعم والراعي، بل والمشارك في هذه السيرورة المتصلة من الأحداث والأبطال، والإسهام في هذه المعركة ليس ترفًا ولا شرفًا، بل هو واجب على كل ثابت في زمنٍ قل فيه الثابتون. وأن نؤكد ضرورة الحفاظ على ميراث القدس، فهو ليس ميراثًا حضاريًا فقط، ولا تختزل القدس في ما تعانيه وتواجهه، فلا يمكننا أن نورث أبناءنا المعاناة فقط، بل علينا أن نقر أن القدس كما بوركت بنص كتاب الله وأمره، باركتها دماء الشهداء وأنفاس الفاتحين.

هو إرث عمل وهم، وليس إرث قعودٍ ودعة.
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".