الفنّ معراج اللغة

الفنّ معراج اللغة

27 مايو 2014
+ الخط -
الفن "ذاكرة موازية مجازية للأمم"، واللغة أحد أعمدة هذه الذاكرة، بل أهمها.
تواجه لغة أي أمّة تحدّيات تاريخيّة، تهدد فاعليّتها وقدرتها على التأثير، وإحداث توتّر خاصّ في هذا العالم. ولا فائدة تُرجى من لغة ما، إذا كانت موجودة فقط في مستويات محدودة، وغائبة عن مستويات كثيرة في مجتمعاتها. هذا ينطبق بالضرورة على اللغة العربية التي تواجه مخاضاً عسيراً، في ظلّ استعلاء لغات لثقافات أخرى وسيادتها، بالقوة الناعمة وغير الناعمة من جهة، وتعقيدات الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمر بها جموع الناطقين باللغة العربية، كما لا يخفى، من جهة أخرى.
تظهر في هذا الظرف أهميّة المنابر التي تعيد الوعي باللغة العربية، وتهيّئ لها الطريق، لكي تصل إلى أصحابها من جديد، فتكتسب فاعليّتها المهدّدة، والفن في مقدمة هذه المنابر.
الفن (الغناء والمسرح والسينما وغيرها) هو الذي يجسد اللغة، ويحقق فيها المعنى، إنه يجعل من اللغة قاموساً نقلّب صفحاته بسهوله في المواقف المختلفة، قادراً على استيعابنا في كل حالاتنا، بدءاً بالإعجاب والاستياء والاندهاش والحزن، وليس انتهاء بالنقد والتعليق والمشاركة.
فلم تكن "واثق الخطوة يمشي ملكاً"، مثلاً، لتأخذ قيمتها في وعي العربي، لولا أن أم كلثوم وقفت يوماً وغنّتها، فأصبحت بعدها قريبة من الوجدان، سهلة الاستحضار، في مواقف ذات صلة.
ولقد أعاد مسلسل "عمر" بعث الروح في البيت الشعري "لا يَصلح الناس فوضى لا سَراة لهم * ولا سَراة إذا جُهّالهم سادوا"، حين قالها وهو ممتلئٌ بهمّ الرعية، فسهلٌ بعدها أن يسقطها العربي على أكثر نماذجنا المهزوزة في الحكم. ولم تكن "رجعت الشتوية"، بكل ما فيها من سهولة وقرب وقدرة على اختصار مشهد وانفعال كامل، لو لم تنطق بها فيروز على خشبة المسرح. ولم تكن حتى "غطيني يا كرمة العلي" بضبابيتها والفكاهة التي تخرج في سياقها قادرة على تلبية حاجتك في موقف ما، لو لم يخرج بها الأردني أحمد حسن الزعبي، في سياق كوميدي شيّق.
اللغة العربية لا زالت تحمل في وجدان الإنسان العربي البسيط مكانة عالية، يكفي أن تراقب عائلة عربية وهي تتابع مسلسل عمر، وترصد تفاعلها مع التراكيب اللغوية البلاغية المعروضة، وكيف يبقى الأطفال يرددون عبارات مقتطعة لساعات طويلة. إنه سحر البيان، لكنه سحر ما كان ليكون، لولا سحر التمثيل والإخراج والموسيقى المصاحبة.
ولو كان لدينا إنتاج فني أكبر وأعمق وأنضج، يعيد إحياء اللغة ويخلق فاعليتها من جديد، لما احتاج كثير من شباب مجتمعاتنا الاستناد على بعض تراكيب لغوية أجنبية، ذات رمزية، ليعبّر عن نفسه من خلالها، ولم يكن ليفعل ذلك، لولا السينما الغربية ابتداءً.
اللغة، إذن، تكتسب قيمتها الحقيقية، كلما كانت عفويّة وسهلة الالتقاط، غير عصيّة على الاستحضار، ولا أقدر من الفن على أداء هذه المهمّة بالطّبع.
 

 
avata
avata
ذيب زهران (الأردن)
ذيب زهران (الأردن)