الفلسطيني سينمائياً: حياة تسرّ الصديق أو ممات يغيظ العدى(3)

الفلسطيني سينمائياً: حياة تسرّ الصديق أو ممات يغيظ العدى(3)

05 يونيو 2017
(من "عُمر" لـ هاني أبو أسعد)
+ الخط -


في فيلم "عمر"، للمخرج هاني أبو أسعد المنتج في عام 2013، يجتمع ثلاثة شبان فلسطينيين على ربوة مطلة على معسكر لجيش الاحتلال.

طارق: خذ نفس، حدد الهدف تاعك، طخ...
أمجد: تقدر تسويها عني؟
طارق: حكينا ألف مرة. عمر سرق السيارة، أنا خططت للعملية، إنت بتنفذ.
عمر: أنا بقدر أعملها.
طارق: مينفعش. هاي مش لعبة. أمجد لازم يشارك. مينفعش يكون مقاوم بالفرجة...

طخ... ويقع أحد الجنود الاسرائيليين صريعًا.

وفي مشهد آخر من فيلم "الجنة الآن" المنتج سنة 2005 لنفس المخرج:

سهى: هيك بتعطي الإسرائيليين عذر إنهم يقتلوا فينا؟
خالد: والله العظيم إنت على نياتك. ما فيش حرية من غير كفاح. طول ما فيه ظلم واحتلال فيه تضحية.
سهى: هادي مش تضحية، هذا انتقام. هيك بتقبل تصير زيهم ويبطل فيه فرق بين الضحية والقاتل.
خالد: الفرق أنه بطل عندنا خيارات ثانية كيف نناضل... لو كان عندنا خيارات ما كان عندنا استشهاديين.
سهى: الفرق الوحيد إن إسرائيل أقوى بكثير عسكريًا وإنت مش قوي قدهم.
خالد: كده خليننا نكونوا متساوين في الموت. رايح تكون لينا الجنة إن شاء الله.
سهى: مفيش جنة.. الجنة فكرة في راسك. ليه ما ننجح نحول المعركة إلى معركة أخلاقية.
خالد: كيف بدك تحولي المعركة لمعركة أخلاقية واسرائيل مفيش عندها أخلاق؟

كان حوارًا عاصفًا بين الشخصيتين على متن سيارة مسرعة قبل أن يعيدهما الحاجز الإسرائيلي إلى أرض الواقع ومنه إلى سعيد، المكلف بتنفيذ عملية استشهادية رفقة خالد. كان سعيد مستلقياً على قبر والده، والذي تمت تصفيته ذات زمان بتهمة العمالة، والحزام الناسف يلف جسده في انتظار لحظة غسل العار الذي لحق العائلة جراء ذلك. وفي مشهد طويل من الفيلم قدم سعيد رؤيته لدوافع إقدامه على الفعل الاستشهادي بأنها رسالة للمحتل الذي يستغل ظروف الفلسطينيين ويضغط عليهم باتجاه الاشتغال لصالحه من دون "أخلاق". سعيد كانت لديه "أخلاق الفرسان" وهو يرفض ركوب حافلة إسرائيلية وتفجيرها لمجرد وجود نساء وأطفال واختار حافلة مليئة بعساكر وجنود الاحتلال.

انتهى المطاف بعمر معتقلا يكيله المحققون كل أصناف التعذيب الحاطَّة من الكرامة الآدمية. خارج السجن ليس حظ الشباب الفلسطيني بأفضل، فهو معرض كل يوم وكل لحظة للتعرض لجندي يعيده إلى واقع الاحتلال المر ويذيقه من المهانة أصنافًا في الحواجز وعلى الطرقات.
عمر يمشي على جانب طريق. يتوقف جيب عسكري إسرائيلي بعيدا عنه، ومن خلال مكبر الصوت نسمع صوت الجندي.

الجندي: وقف عندك، حط يدك على راسك وما تتحرك.
يمتثل عمر للأمر. تفتح أبواب الجيب العسكري وينزل منها جنود مدججون بالسلاح.
الجندي: ارفع البلوزة ولف شوية شوية.

يمتثل عمر.

الجندي: يديك على راسك وتعال هون.

يمشي عمر في اتجاههم وأسلحتهم موجهة إليه. ويستمر الحوار للتأكد من الهوية ومن المكان الذي أتى منه ووجهته.

الجندي: شايف الحجر ايلي هونيك؟ روح وقف عليه.

يمتثل عمر ويحاول جاهداً الحفاظ على توازنه فوق حجر بجانب الطريق في وقت يستمتع فيه الجنود بالموسيقى الصادرة من السيارة العسكرية ويثرثرون.

عمر: لسه ما خلص الفيلم؟ (ينزل عن الحجر ويتوجه إليهم غاضباً) إذا كنتم زلم بجد زيحوا أسلحتكم عن جنب وقتلوني.

يباغته الجندي بضربة على وجهه بمؤخرة سلاحه ليسيل أنفه دماً.
الجندي: (بهدوء) شايف الحجرة ايلي هونيك؟ بتروح بتوقف عليها بس المرة هاي على رجل واحدة.

عودة إلى "الزمن الباقي"..
في مقهى بالناصرة يجلس إيليا شاباً مع رفيقيه. يمر بائع جرائد من أمامهم وهو يصيح: جرايد، جرايد .. الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش.
يطلب الشباب الوطن، لكنهم يفاجأون بنفاده مقابل كل العرب بلا مقابل.
يواصل البائع سيره وهو يصيح: جرايد، جرايد. كل العرب ببلاش....
على قارعة نفس المقهى، كان فؤاد سليمان (والد إيليا) جالسا عام 1948 ومعه عدد من أصدقائه. يمر جندي عربي من أمامهم بحماس.
فؤاد: على فين يا معلم؟
الجندي: أنا من جيش الإنقاذ وذاهب على طبرية.
فؤاد: طبرية من الاتجاه المعاكس.
يسير الجندي بنفس الحماسة في الاتجاه المعاكس.
فؤاد: على فين يا معلم؟
الجندي: طبرية
فؤاد: لا تتعب نفسك. طبرية تحررت.
الجندي: وماذا في هذا الاتجاه؟
فؤاد: حيفا.
يسير الجندي بنفس الحماسة في اتجاه حيفا.
شاب: يا أخ، إلى أين؟
يقف الجندي حائراً.
الشاب: مين وين انت؟
الجندي: من العراق

يضيّفه الشباب على فنجان قهوة، لينضم إليهم في الانتظار على رصيف المقهى في الوقت الذي ترمي فيه طائرات العدو بالمنشورات من أعلى دليل تفوق وانتصار على الأرض.
لم يكفِ العرب أن زجوا بجنودهم في المعركة بأسلحة فاسدة بل دخلوا المعركة دون ترتيب أو قيادة أو حسن تدبير. صحيح أن كل العرب ببلاش.

لكن جار العائلة السكير، وبعد أن انتهى كل شيء وصارت الناصرة من محظيات عصابات الهاجانا، أبدع في نظريات المقاومة والتبشير بالنصر الموعود.

الجار السكير محييا فؤاد سليمان والكأس بيده: جارنا! عندي نظرية: لو العرب شريبة كاس مثلي كنا ربحنا الحرب من زمان. اسألني ليش؟ لأن الواحد بيقعد يمزمز على كاس كاسين عرق بيصير يشوف الطيارة بعيدة عنو مترين.. بيده يتناولها.. شو رأيك جارنا؟ القصة قصة منطق بدها الواحد يكون راسو صاحي مع شوية تفكير.

لا تختلف نظريات الجار عن كثير من التحليلات التي نسمعها من المفكرين الاستراتيجيين والمحللين العسكريين الذي ملأوا الشاشات والإذاعات. لكن العرب صاروا أمة سكيرة ولم تطل أيديهم طائرات العدو يوماً.

يستمع فؤاد سليمان، والد إيليا، إلى جهاز الراديو الذي يبث نشرة أخبار:
صرح رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر أن العرب يؤيدون المبادرات الدولية للحل السلمي. لكن ليس هناك من دليل مادي على رغبة حقيقية من جانب الإسرائيليين في السلام... وتصريحات قادتهم الأخيرة تعكس إصرارهم على عدم الانسحاب من كافة الأراضي العربية. كان هذا موجز الأنباء قدمناه لكم من القاهرة.

كان هذا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. أما اليوم فلم يعد العرب ينتظرون دلائل لا حقيقية ولا وهمية من العدو، فقد رهنوا حاضرهم ومستقبلهم، بعد أن أنكروا ماضيهم، بمبادرات دولية وإقليمية على أمل أن تستسلم إسرائيل أمام ضعفنا وهواننا وسلمية مبادراتنا.

لم تعد القاهرة تحتكر الخبر وصار الفضاء مملكة عربية بامتياز أخبارا وترفيها وأغاني وأفلاماً. لكن الأرض تشهد أن كثيرا منا غيروا السلاح بالسبحة والسيجار وطوابع وأقلام للتوقيع على التنازلات خنوعا وخضوعا.

المساهمون