23 مايو 2017
الفقيه والدولة... الصمت عند اللزوم
الفقيه والدولة... الصمت عند اللزوم
تحيا الأيديولوجيا في كنف الدولة، وتموت إذا لم تجد لها حضناً يرعاها، أو على الأقل، تتقلص إلى أدنى مستوى. على النقيض، تتمدد الأيديولوجيا إذا ما تبنتها الدولة، وعملت على تعميمها على مواطنيها، أو نشرها خارج حدودها، كما حال الدول ذات الصبغة التبشيرية.
هذا الحال، أعني ازدهار الأيديولوجيات تحت لواء الدولة الحديثة، يشمل فيما يشمل، الأديان السماوية والمذاهب الدينية. التشيع وفقهاؤه، ليسوا استثناءً من هذه المعادلة. في المعتقد الشيعي، تتمحور فكرة الدولة حول "الإمامة"، أي وجود إمامٍ معصوم من الخطأ، في كل زمان ومكان، من سلالة آل بيت النبي محمد، وأن الإمامة صفة إلهية كالنبوة، يوهب صاحبها علماً دينياً غير مكتسب، لكن من دون وحي، وهي أقل درجة من النبوة في المقام، أو تليها مباشرة. أما إذا ما اختفى الإمام، أو غاب عن الأنظار، فإن كل صلاحياته، أو جزءاً كبيراً منها، تذهب إلى الفقيه الذي لا يرث مسؤوليات الإمام في غيابه فقط، لكنه يحظى بقداسته أيضاً. بهذا المنطق، يحظى مفهوم الفقيه بمنزلة أعلى في المذهب الشيعي من بقية المذاهب الإسلامية.
ثمة اختلاف بين الفقهاء الشيعة في تقييم مسألة الإمامة والخلافة السياسية، قلة منهم تجد أن الإمامة لا تعني، بالضرورة، الخلافة السياسية، بل يرون أن مفهوم الإمامة أوسع من مجرد مسألة خلافة سياسية. آخرون كثر يرون تلازم الإمامة السياسية مع الدينية. الرأي الأول، على الرغم من أنه رأي أقلية، إلا أنه قد يتيح لأنصاره مساحة أوسع لتبرير قبول الإمام علي بن أبي طالب العمل ضمن حكومات الخلفاء الراشدين، بشكل عقلاني وموضوعي، حتى لو ظن أصحاب هذا الاعتقاد أن الإمامة لا شورى أو انتخاب فيها.
عند تتبع تاريخ الفقهاء الشيعة مع الدول التي عاشوا تحت ظلها، نجدهم يتأرجحون بين منطقين. منطق مهادنة السلطة والصمت عن أفعالها، وإن لم تكن سلطة شرعية بحسب النظرة الفقهية. ومنطق آخر، نقيض له، يمارس الفقيه دور القائد الموجه للتمرد. كلا الأمرين يعتمد على الخلفية الثقافية والحوزوية التي ينطلق منها الفقيه، وكذلك طموحاته الشخصية.
تبرز في أذهان عامة الناس صورة مشوشة حول المرجعية الشيعية، تتمثل في التسليم بأن حوزة النجف اتسمت بالتمنع عن الانخراط في العمل السياسي، على العكس من حوزة قم، والفقهاء الإيرانيين الذين دائماً ما لعبوا دوراً محورياً في الحياة السياسية داخل إيران وخارجها، بما يوحي للقارئ، وكأنَّ انزواء مرجعية النجف عن العمل السياسي عقيدة دينية، لا بسبب الظرف السياسي والعلاقة مع الحكومة التي تحكم البلد الذي يخضعون لحكمه. لم تأخذ هذه السردية، على رجحانها على ما سواها، صفة الإطلاق، بل ثمة لحظات تاريخية تبدلت فيها مواقف الفقهاء وأدوارهم، بحسب الأوضاع السياسية في البلد. لذا، فإن "الصمت السياسي" الذي مارسته حوزة النجف في بعض الظروف تم تمزيقه، بالحديث عند اللزوم، أو عندما تقتضي مصلحة "الجماعة" الحديث، وإلا فحوادث مؤلمة كثيرة ألمت بالعراق بعد الاحتلال تم تجاهلها لأسباب غير معلومة.
إذن، يتناسى فقهاء كثيرون الاشتراطات التي يضعونها على العامة في الحكم على شرعية السلطة، وجواز التعامل معها، إذا ما رأوا مصلحة للمعتقد وانتشاره، وأن رصيده قابل للمضاعفة. والنشاط العلمائي والانفتاح على الشؤون السياسية دائماً ما ترافق مع موقف السلطة السياسية الأيديولوجي من الشيعة، لا على عدالتها، ولا على استقامتها. في عصر الدولة البويهية مثلاً، والتي قامت في بلاد فارس سنة 943م، شهدت حركة التأليف عند العلماء ازدهاراً كبيراً، وقد "ظهرت أمهات الكتب الشيعية"، أو الكتب الأربعة المؤسسة، مثل كتاب الكافي للشيخ الكليني، وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ محمد علي بابويه، الذي حظي بعناية خاصة من السلطان. وللاستزادة في هذا الموضوع، يستطيع القارئ الرجوع إلى كتاب وجيه كوثراني "الفقيه والسلطان" الذي فصَّل في العلاقة بين الفقيه والسلطان في تلك الحقبة الزمنية.
لكي نقرب الصورة أكثر، فإن فقهاء الشيعة ليسوا بدعاً من البشر، إنما ساروا على ناموس الديانات والمذاهب الدينية الأخرى، فالديانة المسيحية انتشرت بعد أن تبنتها الإمبراطورية الرومانية في عهد قسطنطين، كما لم تنتشر قبله.
يعي الفقيه أهمية وجود دولةٍ تنشر معتقداته. لذا، فإن الآراء الفقهية قد تعطلها المصالح الدينية والسياسية، والصمت السياسي الذي يمارسه بعض العلماء ليس نتاج إيمانٍ "بعلمانية الدولة"، بل بسبب الظروف السياسية التي تحكمه.
هذا الحال، أعني ازدهار الأيديولوجيات تحت لواء الدولة الحديثة، يشمل فيما يشمل، الأديان السماوية والمذاهب الدينية. التشيع وفقهاؤه، ليسوا استثناءً من هذه المعادلة. في المعتقد الشيعي، تتمحور فكرة الدولة حول "الإمامة"، أي وجود إمامٍ معصوم من الخطأ، في كل زمان ومكان، من سلالة آل بيت النبي محمد، وأن الإمامة صفة إلهية كالنبوة، يوهب صاحبها علماً دينياً غير مكتسب، لكن من دون وحي، وهي أقل درجة من النبوة في المقام، أو تليها مباشرة. أما إذا ما اختفى الإمام، أو غاب عن الأنظار، فإن كل صلاحياته، أو جزءاً كبيراً منها، تذهب إلى الفقيه الذي لا يرث مسؤوليات الإمام في غيابه فقط، لكنه يحظى بقداسته أيضاً. بهذا المنطق، يحظى مفهوم الفقيه بمنزلة أعلى في المذهب الشيعي من بقية المذاهب الإسلامية.
ثمة اختلاف بين الفقهاء الشيعة في تقييم مسألة الإمامة والخلافة السياسية، قلة منهم تجد أن الإمامة لا تعني، بالضرورة، الخلافة السياسية، بل يرون أن مفهوم الإمامة أوسع من مجرد مسألة خلافة سياسية. آخرون كثر يرون تلازم الإمامة السياسية مع الدينية. الرأي الأول، على الرغم من أنه رأي أقلية، إلا أنه قد يتيح لأنصاره مساحة أوسع لتبرير قبول الإمام علي بن أبي طالب العمل ضمن حكومات الخلفاء الراشدين، بشكل عقلاني وموضوعي، حتى لو ظن أصحاب هذا الاعتقاد أن الإمامة لا شورى أو انتخاب فيها.
عند تتبع تاريخ الفقهاء الشيعة مع الدول التي عاشوا تحت ظلها، نجدهم يتأرجحون بين منطقين. منطق مهادنة السلطة والصمت عن أفعالها، وإن لم تكن سلطة شرعية بحسب النظرة الفقهية. ومنطق آخر، نقيض له، يمارس الفقيه دور القائد الموجه للتمرد. كلا الأمرين يعتمد على الخلفية الثقافية والحوزوية التي ينطلق منها الفقيه، وكذلك طموحاته الشخصية.
تبرز في أذهان عامة الناس صورة مشوشة حول المرجعية الشيعية، تتمثل في التسليم بأن حوزة النجف اتسمت بالتمنع عن الانخراط في العمل السياسي، على العكس من حوزة قم، والفقهاء الإيرانيين الذين دائماً ما لعبوا دوراً محورياً في الحياة السياسية داخل إيران وخارجها، بما يوحي للقارئ، وكأنَّ انزواء مرجعية النجف عن العمل السياسي عقيدة دينية، لا بسبب الظرف السياسي والعلاقة مع الحكومة التي تحكم البلد الذي يخضعون لحكمه. لم تأخذ هذه السردية، على رجحانها على ما سواها، صفة الإطلاق، بل ثمة لحظات تاريخية تبدلت فيها مواقف الفقهاء وأدوارهم، بحسب الأوضاع السياسية في البلد. لذا، فإن "الصمت السياسي" الذي مارسته حوزة النجف في بعض الظروف تم تمزيقه، بالحديث عند اللزوم، أو عندما تقتضي مصلحة "الجماعة" الحديث، وإلا فحوادث مؤلمة كثيرة ألمت بالعراق بعد الاحتلال تم تجاهلها لأسباب غير معلومة.
إذن، يتناسى فقهاء كثيرون الاشتراطات التي يضعونها على العامة في الحكم على شرعية السلطة، وجواز التعامل معها، إذا ما رأوا مصلحة للمعتقد وانتشاره، وأن رصيده قابل للمضاعفة. والنشاط العلمائي والانفتاح على الشؤون السياسية دائماً ما ترافق مع موقف السلطة السياسية الأيديولوجي من الشيعة، لا على عدالتها، ولا على استقامتها. في عصر الدولة البويهية مثلاً، والتي قامت في بلاد فارس سنة 943م، شهدت حركة التأليف عند العلماء ازدهاراً كبيراً، وقد "ظهرت أمهات الكتب الشيعية"، أو الكتب الأربعة المؤسسة، مثل كتاب الكافي للشيخ الكليني، وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ محمد علي بابويه، الذي حظي بعناية خاصة من السلطان. وللاستزادة في هذا الموضوع، يستطيع القارئ الرجوع إلى كتاب وجيه كوثراني "الفقيه والسلطان" الذي فصَّل في العلاقة بين الفقيه والسلطان في تلك الحقبة الزمنية.
لكي نقرب الصورة أكثر، فإن فقهاء الشيعة ليسوا بدعاً من البشر، إنما ساروا على ناموس الديانات والمذاهب الدينية الأخرى، فالديانة المسيحية انتشرت بعد أن تبنتها الإمبراطورية الرومانية في عهد قسطنطين، كما لم تنتشر قبله.
يعي الفقيه أهمية وجود دولةٍ تنشر معتقداته. لذا، فإن الآراء الفقهية قد تعطلها المصالح الدينية والسياسية، والصمت السياسي الذي يمارسه بعض العلماء ليس نتاج إيمانٍ "بعلمانية الدولة"، بل بسبب الظروف السياسية التي تحكمه.