الفساد والخيار الوطني في لبنان

الفساد والخيار الوطني في لبنان

09 اغسطس 2020

ماكرون يحتضن مواطنة لبنانية في بيروت في زيارته بعد الإنفجار (6/8/2020/Getty)

+ الخط -

سارعت المعارضة الفرنسية، على تنوع تياراتها، من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار، إلى انتقاد زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون بيروت، بعد الانفجار الهائل والغامض الذي أتى جزئياً على العاصمة بيروت. وقد تنوّعت درجة الانتقادات، فمنها من تبنّى الحديث عن التدخل في شؤون بلدٍ تخلّص من الانتداب الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي، كجان لوك ميلانشون، اليساري المتطرّف والمدافع الشرس عن سياسات الرئيس الروسي، بوتين، في العالم وخصوصاً في سورية. ومنها من تحدّث عن استعراض انتخابي وصولي كممثلي حزب مارين لوبان اليميني المتطرّف، والتي ترتبط بعلاقات صداقة وإعجاب ببعض سياسيي لبنان، المتطرفين يميناً مثلها. كما تعرّضت الزيارة إلى حملة من انتقادات إعلاميةٍ تميّزت بها محطات الأخبار المتواصلة، والتي تقترب من اليمين المتطرّف حيناً، ومن اليسار المتطرّف حيناً آخر، بحثاً عن استقطاب مشاهدين يتكاثر عددهم مع زيادة الميول الشعبوية لدى الساسة التقليديين أو الساسة المنتمين أصلا للمدرسة الغوغائية، والتي صارت تجذب أكثر فأكثر في العالم المتقدّم كما المتخلف. وقد حاول عديدون منهم التطرّق إلى الموضوع بصورة أقرب إلى السخرية من خطوة ماكرون، غير المجدية حسب تعبيرهم. وقارب آخرون الزيارة من حيث إنها تمت بمعزلٍ عن توافق دولي وغطاء أميركي ودعم من الأمم المتحدة.

الفساد والفشل يجلبان اللجوء إلى الآخر الذي، مهما جاز انتقاده، لن يكون المُلام

الزيارة، وبعيداً عن حساباتها السياسية والسياسوية، والانتقادات المحقة والمجحفة، فرنسياً وعربياً، لا تعتبر الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، فقد سبق أن بادر عدد ممن سبقوا ماكرون إلى قصر الإليزيه إلى القيام بزيارات "غريبة" و"شجاعة" كما حصل مع شارل ديغول إبّان زيارته كندا، ومقاطعة كيبيك الفرنكوفونية تحديداً، سنة 1967، عندما أطلق في خطاب له في مونتريال عبارته "عاشت كيبيك حرة". وقد أدّى هذا الموقف الصريح إلى الغاء اجتماعاته مع الحكومة الكندية، وعودته إلى باريس، مقتطعاً زيارته مع رضى سياسي وشعبي كبيريْن في المسرح الداخلي الفرنسي. كما أدّى فرانسوا ميتران سنة 1992 زيارة جريئة للغاية إلى مدينة سراييفو في أثناء محاصرة القوات الصربية لها، والتي أبدى الغرب حينها عجزه التام عن إيقاف زحف تلك القوات ومجازرها. وعلى الرغم من بقاء الزيارة في حدود الرمزية التي جسدتها، وعدم إعلانها وقف الحرب المدمرة، إلا أنها سمحت بإيصال ما يقارب 150 طناً من المساعدات الغذائية والدوائية إلى المدينة المكلومة. 

كما شهدت الألفية الثانية زيارتين على جانب كبير من الأهمية إلى لبنان، على الرغم من شبه تناقض هدفيهما: في الأولى، وصل الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، إلى أرض مطار بيروت الدولي ساعات بعد جنازة صديقه رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في عام 2005 الذي اغتيل في حادث تفجير هائل، ما زال مرتكبوه أحراراً، كما جل مرتكبي الاغتيالات السياسية في لبنان منذ بدء الحرب الأهلية سنة 1975. والزيارة الثانية بعد ثلاث سنوات من زيارة شيراك، قام بها الرئيس ساركوزي الذي وصل إلى بيروت في 7 يونيو/ حزيران 2008، بعد شهر من اجتياح حزب الله المدينة، والذي أدى إلى صدامات أودت بحياة عشرات من المدنيين. ولم يكن للزيارة أن تتم لو لم يجر تنسيقها مع الراعي السوري، والذي على الرغم من خروجه من الباب سنة 2005، سرعان ما عاد إلى لبنان من النافذة عبر حلفائه. ومن ضمانات هذا التوافق السوري الفرنسي حينها، دعوة بشار الأسد إلى باريس، في محاولة لإعادته الى ساحة الدبلوماسية الدولية والغربية، خصوصاً بعد أن أخرجته فرنسا نفسها منها إثر اغتيال الحريري سنة 2005. وقد تم ذلك بأن يكون الأسد ضيف شرف الجمهورية الفرنسية لاحتفالات عيدها الوطني في 14 يوليو/ تموز سنة 2008. 

تحدّث ماكرون في زيارته بيروت بلغة أكثر قرباً من الناس، ومن المجتمع المدني اللبناني الثائر، منها إلى الطبقة السياسية الحاكمة

إذاً، ماكرون اتبع خطى أسلافه ولم يجترح الجديد، إلا أنه في زيارته تحدّث بلغة أكثر قرباً من الناس، ومن المجتمع المدني اللبناني الثائر، منها إلى الطبقة السياسية الحاكمة، والتي تعتبر نسبة كبيرة من اللبنانيين بأنها، في أحسن الأحوال، غير كفوءة في تحمل إدارة البلاد وإخراجها من أزمتها البنيوية المستمرة منذ انتهاء الحرب الأهلية، والحلم المجهض ببناء لبنان جديد، يبتعد تدريجياً عن الطائفية وعن المحاور الإقليمية، ليعتني بإعادة بناء ما دمرته الحرب الأهلية، ويعيد إلى اقتصاد لبنان ازدهاره. أحلامٌ مشروعة أجهضتها المماحكات السياسية والبيروقراطية الممتزجة بالفساد والطائفية المتجذّرة في إدارة شؤون البلاد. وجاء انفجار مرفأ بيروت المدمّر لينعكس انفجاراً نفسياً أودى بصبر اللبنانيين على طبقتهم السياسية، خصوصاً أن أصابع الاتهام تشير إلى أن الإهمال والفساد كانا سببين رئيسيين لهذه الفاجعة. 

وبمنأى عن الأحكام المتعجلة، إعلامياً وتحليلياً، عن الزيارة وحمولتها، إلا أنها سجلت محطة لافتة ظهرت من خلال الترحيب الشعبي الكبير بالرئيس الفرنسي الذي تجوّل في الأحياء المدمرة، وتفقد أحوال الناس، وخاطبهم بجرعاتٍ من الأمل الحقيقي أو المصطنع، واعداً بألا يرسل مساعداتٍ إلى جيوب الفاسدين، بل إلى الشعب نفسه. وأشار إلى طلبه من محاوريه السياسيين أن يُقدموا على إصلاح ما بأنفسهم علّ الآخرين يساعدونهم في عملية إصلاح البلاد والاقتصاد. وقد ظهر جلياً أن الناس، وفي ظل دمار المؤسسات الوطنية وعدم الشعور بالتمثيل الحقيقي لهم، يمكن أن يرتموا في أحضان الغريب، مهما كان ثقافياً واقتصادياً بعيداً. فكما قال القدماء الاستبداد يجلب الاستعمار، فالفساد والفشل المزمن يجلبان أيضا اللجوء إلى الآخر الذي، مهما جاز انتقاده، لن يكون هو الملام حتماً ولو كان سراباً.