الفرزدق في ضيافة المخابرات الجوية

الفرزدق في ضيافة المخابرات الجوية

12 يونيو 2017
+ الخط -

الزمان: عام 2007.

المكان: لواء التأمين الإلكتروني الثالث في دير الزور.

أثناء خدمتي الإلزامية في لواء التأمين الالكتروني الثالث في دير الزور، استدعاني رئيس فرع المخابرات الجوية في دير الزور إلى مكتب قائد اللواء، وقال لي: "سمعنا أنك تكتب الشعر. نريد منك قصيدة بمناسبة الثامن من آذار. سنلقيها أثناء الحفل الذي سيقيمه الفرع في تلك المناسبة". طبعاً، لا يوجد أمامي سوى خيار القبول مع ابتسامة عريضةٍ وهزّة رأس. فعدت إلى غرفتي، وقد نسيت الموضوع.

وقبل حلول تلك المناسبة العظيمة، قام رئيس فرع الجوية في دير الزور بمخاطبة قيادة اللواء طلباً للقصيدة العصماء. على الفور، طلبني قائد اللواء يريد القصيدة ليرسلها عبر البريد السري إلى رئيس فرع المخابرات الجوية. فطلبْتُ من السيد العميد بعض الوقت لإحضارها، وانطلقت على الفور لأبدأ بكتابتها.

لم يمض بعض الوقت، إلا والقصيدة العصماء ممهورة بتوقيعي، وأنا متأكد لو أن الفرزدق يعيش على زمن البعث لما استطاع مجاراتها. فحملتها وسلمتها لمكتب قائد اللواء مرتاح الضمير، وخصوصاً ذلك الضمير الوطني والقومي الذي ينبض بمحبة القيادة الحكيمة.

مضَت الأيّام وقد نسيت أمر تلك القصيدة وما حدث. وكنت قد حصلت على إجازة قضيتها في مدينتي الصغيرة. وأثناء الإجازة تلقّيت اتصالاً من أحد الأصدقاء العسكريين يؤكد لي فيه أن فرع المخابرات الجوية استدعاني، فأخبرهم رئيس قسم الذاتيّة أنّني في إجازة.

بدأ الخوف يتسلل إلى نفسي، هل يعقل أنَّهم فتحوا أرشيفي السياسي، واكتشفوا مدى الخطر الذي أشكله على أمن الوطن؟ وهل للقصيدة علاقة في ذلك؟ لم أعد أستطيع النوم فتحولت الإجازة إلى كابوس يمهد لزلزال لا أدري مدى ارتداداته.

وأخيراً انتهت الإجازة وانطلقت باتجاه مدينة دير الزور. وأنا أفكر طول الطريق عن الجريمة التي ارتكبتها بحق الوطن وقيادته الحكيمة. فور وصولي إلى مقر اللواء بالقرب من مطار دير الزور العسكري. تهافت عليّ أصدقائي من المجندين والمتطوعين لإخباري بأن فرع المخابرات الجوية طلبني أثناء الإجازة.

أخذت مهمة مغادرة وتوجهت إلى مبنى فرع المخابرات الجوية في منطقة غازي عياش. وبعد أن قدمت لحرس الفرع بطاقة مهمة مراجعة الفرع أخبر رئيس الفرع بقدومي الذي أمره بأن أتوجه إلى مكتب التحقيق فوراً.

دخلت المكتب فاستقبلني عنصر برتبة مساعد وراء طاولته. وأجلسني على أريكة بالقرب من الطاولة. وأنا لا أدري لماذا أنا هنا وحصراً في مكتب التحقيق. وكل شيء من حولي يثير الريبة والشك والخوف.

بدأت أجيل النظر حولي في المكتب فوقعت عيني على خزانة مملوءة بالأضابير المعنونة بعناوين لم أسمع بها من قبل. كملف المغتربين، وملف الهاربين، وملف مكافحة الإرهاب، وآخر للحركات الدينية، يجاوره ملف للحركات السياسية، يعلوه ملف للإخوان المسلمين. قاطع المساعد فضولي باتصال أجراه مع رئيس الفرع يخبره بوجودي في المكتب عنده. فهمت من خلال ذلك الاتصال أن عليّ الانتظار بعض الوقت. لكنني أحببت أن أتأكد فسألت المساعد الذي يقرأ في ملف صف الضباط المجندين: "ألم يقل لك سيادة العقيد لماذا أنا هنا؟". دون أن ينظر في وجهي قال: "لا". ثم تابع تصفحه للملف الذي بين يديه.

بعد فترة قصيرة من الوقت أدخل الحرس أحد المدنيين فاستقبله الحرس بصفعة على وجهه أحسست بألمها وأنا جالس بعد أن فقدت القدرة على الوقوف. ابتلعت ما تيسر من ريقي، وأنا أتهرب من النظر في وجه أحد. تمتم المساعد قليلاً ثم أمر الحارس باقتياد المدني إلى النظارة وإجراء اللازم دون أن أفهم ما هي جريمته التي استحق عليها هذه المعاملة.

اقتاد الحارس ذلك المدني المجرم وأنا جالس على الأريكة أراقب الساعة، ومع كل دقة من عقاربها كنت أفقد الأمل بالخروج من ذلك الجحيم اللعين.

استجمعتُ قواي الخائرة، وطلبت من المساعد أن يتصل برئيس الفرع ليذكره بوجودي لعله نسيني هنا وهو يريدني لأمر مهم. لم يجب المساعد بأية كلمة ولكنه تناول سماعة الهاتف واتصل بالعقيد وليد رئيس الفرع ليسمع نفس الجواب السابق: "دعه ينتظر قليلاً". تصنَّعْت ابتسامةً باهتةً، وعدت إلى التفكير بما سيؤول إليه الحال، ولا أحد من أهلي يعلم ما أنا فيه، فقد كان يكفي أمي أن تعلم بوجودي هناك حتى تصاب بسكتةٍ قلبية.

مضت ثلاث ساعات وأنا أنتظر مصيراً مجهولاً لا أدري ما هو. لكن الدلائل تشير إلى سوداويته بلا أدنى شك.

أما المساعد، فقد استبدل ملف صف الضباط المجندين بملف الإخوان المسلمين ولم يتحدث كلمة واحدة معي وأنا غارق في التأويلات والتوقعات والاحتمالات. حسمت أمري وطلبت منه الاتصال برئيس الفرع للتذكير بي. صرخ المساعد في وجهي وهي الكلمة الوحيدة التي قالها لي بعد مضي كل تلك الساعات: "اخرس. لعمى يضربك". خرست على الفور وقد استحوذ الخوف بشكل مطلق عليّ. لكنه تناول سماعة الهاتف واتصل بالعقيد ليحصل على نفس الأجوبة السابقة: "دعه ينتظر قليلاً". وقف المساعد وتقدم نحوي ثم قال لي: "قم معي". دون أن أسأل إلى أين لحقت به ليزجّ بي في غرفة فارغة من كل شيء إلا طاولة وكرسي ومصباح أحمر يتدلى من السقف. تركني فيها وغادر بعد أن أقفل الباب.

هنا عرفت المصير الأسود الذي ينتظرني فبدأت حياتي تمرُّ في ذاكرتي كشريط سريع دون أن أهمل شيئاً. كل ذلك في بضع ثوان كنت غير قادر فيها على التركيز على التفاصيل. وكل شيء متشابه أمامي الآن وأنا بين يدي الموت المحتم. لكن المشكلة الكبرى التي جعلتني أنهار وقد اختنقت الدمعة في عيني كيف ستستقبل أمي المفجوعة سابقاً نبأ اعتقالي؟

مضت ساعتان وأنا وحيد في تلك الغرفة وقد اتخذت من زاويتها البعيدة مكاناً لي أنتظر جالساً كشاةٍ تنتظر ذبحها بعد قليل.

فجأة فتح المساعد باب الغرفة باشّ الوجه. فوقفتُ على الفور منتظراً منه الأوامر. فابتسم وقال لي: "المعلم العقيد يعتذر منك شديد الاعتذار لأنه لم يتح له الوقت الكافي لمقابلتك وشكرك. لكنه أمر بصرف مكافأة مالية وقدرها 500 ليرة سورية على قصيدتك الرائعة. خذ هذا الوصل وبإمكانك أن تعود غداً لاستلامها من المكتب المالي".

كمن استيقظ من كابوس مؤلم تغيرت ملامحي، وانطلقت باتجاه باب الغرفة وقلت للمساعد: "لا لا. لا يمكن لسيادة العقيد أن يعتذر مني فأنا من أعتذر منه. لا أدري على ماذا ولكنني حقاً أعتذر. أما بالنسبة للمكافأة القيمة فهي هدية مني لك لأنك كنت متعاوناً جداً معي". أصرَّ المساعد على ضرورة قدومي في اليوم التالي لاستلام المكافأة بينما حلفت له أغلظ الأيمان إحداها بالطلاق أنها هدية له هو. نعم هو ولا أحد سواه. ووقّعت له على وصل استلامها وقدمت الوصل له. ثم خرجت راكضاً من الفرع دون أن ألتفت للوراء لأوقف أول سيارة أجرة عابرة لتقلّني إلى لواء التأمين الإلكتروني الثالث بعد أن ولدت من جديد.

نور الدين الإسماعيل
نور الدين الإسماعيل
خريج كلية الآداب جامعة حلب قسم اللغة العربية. يكتب الشعر والقصة القصيرة الساخرة والمسلسلات الإذاعية الساخرة لراديو فريش المحلي. كتب سيناريو فيلم قصير "المارد" قام بأداء الأدوار فيه مجموعة من الشباب الموهوبين في الداخل السوري. يقول: "عاطل عن الأمل"