Skip to main content
الفراغ العمراني.. محاولات ملئه بالفن
محمود عاطف ــ القاهرة
دويفلهارد في مسرح كامبناجيل (تصوير: رونالد ماغونيا)

كان من المفترض أن تُلقي الباحثة المسرحية والناشطة الثقافية الألمانية إيميلي دويفلهارد محاضرتها في مسرح "روابط" التابع لـ "مؤسسة تاون هاوس"، لولا انهيار جزء من المبنى الذي تشغله المؤسسة ثمّ قرار السلطات المحلية هدم البناية.

المحاضرة التي تحمل عنوان "الفراغ العمراني كساحة للمسارح"، عُقدت رغم ذلك، في "المركز الثقافي الإيطالي" في القاهرة أمس الأول.

صحيح أنه قبل ساعات قليلة من بدء اللقاء، الذي يأتي ضمن سلسلة محادثات بشأن الفنون "آرت توك" تقيمها "شبكة معاهد الاتحاد الأوروبي الوطنية للثقافة" في القاهرة، أُوقف قرار هدم المبنى؛ إلا أن ذلك اللغط يصح مدخلاً لما طرحته دويفلهارد بشأن تجربتها في استغلال الفضاءات العامة كساحات للفنون.

التقطت دويفلهارد الخيط وأشارت في بداية حديثها إلى العلاقة بين ما يحدث لمؤسسة "تاون هاوس" وتجربتها في مشروع قصر الشعب "فولكس بالاست" في برلين بين عامي 2004- 2005، وهي التجربة التي كرّست لها النصف الثاني من محاضرتها.

النقطة التي انطلقت منها دويفلهارد في محاضرتها تتعلق بإدارتها لمسرح "كامبناجل"، تقول "السؤال الذي واجهني هو كيف أقيم علاقة بين "كامبناجل" ومدينة هامبورج حيث يوجد المشروع"، وتضيف أنها عثرت على الإجابة في موقع المسرح، إذ "المبنى قلْب والمدينة دوائر من حوله".

وقد انطلق "كامبناجل" من مصنع مهجور للرافعات بجوار الميناء في طرف المدينة القصيّ، ليغزو دوائرها في لعبة بدأت تتسع شيئاً فشيئاً لتشمل مواقع طرفية أخرى بدأت تجتذب إليها جمهوراً تزايدت كثافته مع الوقت، لتعود الدوائر فتصب في المبنى القلب.

استدعت هذه الاستراتيجية- كما أكدت المحاضِرة- استقدام فنانين من جنسيات مختلفة ومعظمهم من الشباب لتقديم عروضهم الأدائية في الفضاءات العامة، من خلال تحويلها إلى مسارح ومساحات للتفاعل الثقافي والفني، كما تم تجهيز إحدى قاطرات النقل الثقيل التي تعود للمصنع، لتغدو مسرحاً متنقلاً من الزجاج، إضافة إلى تحويل "كراج" المصنع إلى حديقة ثقافية.

الرؤية التي طرحتها دويفلهارد، حول معالجة الرموز المادية للتاريخ بوسائط الفن، تثير الأسى إذا ما دفعتنا إلى التفكير في القاهرة. وتذكّر بجهود ذهبت سُدى، طالبت فيها قوى المجتمع المدني من الدولة الإبقاء على مبنى "الحزب الوطني" الذي احترق في ثورة 25 يناير، وإعادة ترميمه من أجل استخدامه في أكثر من فكرة طرحت وقتها، لكن هذه المطالبات قوبلت بالتجاهل، وتمّ هدم المبنى وتسويته بالأرض قبل شهور.

أحد أبرز ما تشير إليه دويفلهارد في تجربتها هو صلصالية المكان، كأن المكان قطعة من طين الصلصال الذي يشكّله الأطفال، تتفاعل معه دويفلهارد وفنانو البرامج التي تشرف عليها بالطريقة ذاتها، وهو ما أكدّته بحديثها عن "الارتكاز على فكرة وجود عامل تحويلي دائماً في العلاقة بالمكان الفني".

بالوصول إلى برلين، عرضت دويفلهارد لتجربتها الأبرز مع تحويل "قصر الشعب" إلى ساحة كبرى للفنون المعاصرة. القصر كان مقراً حكومياً لجمهورية ألمانيا الديمقراطية إبان الحكم الاشتراكي ما قبل توحيد الألمانيتين، وأقيم على أنقاض قصر برلين الذي هُدم سابقاً للتخلص من آثار العصر البروسي، ثم قررت الحكومة الاتحادية هدم قصر الجمهورية مرة أخرى بسبب الماضي الاشتراكي الذي يرمز إليه؛ فناضلت دويفلهارد مع أصدقائها مدة عامين للحصول على ترخيص باستغلال المساحة الشاسعة للقصر لإتاحتها للاستخدام الفني. وتوضح كيف أصبحت حجرات القصر وساحاته العديدة مكاناً لتقديم العديد من العروض المسرحية ومشاريع الرقص المعاصر.

الجهود التي قادتها دويفلهارد مع أصدقائها من أجل الإبقاء على المبنى بغرض الاستخدام الفني، ليست رغبة في إحلال الحاضر مكان الماضي ببساطة، بل إلقاء نظرة على التاريخ من قلب بنيته المادية في الزمن الراهن، وبنية التاريخ المادية هنا هي مبانيه وقصوره وعمارته، تقول "هذا الجيل يريد أن يرى التاريخ والظروف المحيطة بنشأته من خلال عرض التاريخ بشكل متنوع ومفتوح وليس فقط بشكل بسيط موحد".

يمكن لمحاضرة دويفلهارد أن تثير الكثير من الأسئلة حول مساحات مهجورة في القاهرة، فمع وجود العديد من المباني التاريخية غير المستغلة والمتروكة لعوادي الدهر، هناك ما يمكن أن تفيدنا به تجربة الباحثة الألمانية.

في المقابل، يظهر أن تجربة من هذا النوع تكاد تكون مستحيلة في ظلّ قلة حيلة الفنان والمثقّف في مصر الراهنة: كيف يحقّق هذا ضغطاً ناجعاً على الدولة لاستخدام المباني المهجورة في ظل حالة العداء الحالي للثقافة؟

تخوض دويفلهارد، مؤخراً، في قلب الجدل الأوروبي الحالي بخصوص اللاجئين، إذ افتتحت مشروع "إكوفافيلا لامبيدوسا نورد" الخاص بالمهاجرين واللاجئين، ليساعدهم على تقديم أنفسهم وتجربتهم للمجتمع الألماني.

بدأ المشروع بمنزل لاستقبال ستة مهاجرين فقط كل فترة، لمناقشة معسكرات اللجوء ذات الكثافة الكبيرة، مقارنة بالأخرى الصغيرة وأثر ذلك في تجربة دمج غير الألمان.

تطوّر المشروع ليغدو مركزاً اجتماعياً أكبر وشبكة راديو وبرامج تليفزيونية يديرها ويقدّمها لاجئون ومهاجرون، ليس هذا فحسب، بل إن انغماسها في هذا الجدل دفعها إلى إنتاج عرض فني قدّمه مسرحيون ألمان في الشارع بعنوان "اندمجوا يا ألمان"، في تجربة ترمي إلى عكس دور كل طرف، الأمر الذي لم تكن عواقبه سليمة طوال الوقت "دائماً نطالب المهاجرين بالاندماج، لماذا لا نطلب ذلك من أنفسنا"، تقول دويفلهارد وهي تختم محاضرتها.