الفاتح ونظامنا التعليمي الذي جاءَ أجله

الفاتح ونظامنا التعليمي الذي جاءَ أجله

26 فبراير 2015
تقدر تكلفة مشروع الفاتح بـ7 مليارات دولار (الأناضول)
+ الخط -

ما كتبته جملةً وتفصيلاً في جوابي عن أسئلة الامتحان قبل عشرة أعوام، كان نوعاً ما غريباً. وذلك عندما كنت طالباً في المرحلة الأولى من الثانوية العامة، حينما أجبت عن سؤال في مادة الأحياء، غير المحببة لديّ مطلقا. فمن ضمن الأسئلة التي جاء بها المدرس في الامتحان، سؤال: لماذا يموت نوع من أنواع الحيوانات عندما يصيبه نوع ما من الأمراض؟! (أذكر أن نوع "الحيوان" هذا لم أصادف مشاهدته في حياتي مطلقا، ويصعب عليّ تذكّر اسمه الآن لأنني نسيته!) فكان جوابي عن ذلك السؤال غريباً عن سياق الأجوبة المعتادة للمادة المقررة في الامتحان، فأجبت بأن سبب موت هذا الحيوان هو انتهاء أجله، وذكرت في الجواب معللاً رأيي بالآية الكريمة من كتاب الله، القرآن الكريم: "فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون"..!

علمياً، كان جوابي غير منطقي بكل معنى الكلمة. واقعياً قد أكون محقاً فيه، ومن زوايا عدة، وبين هذا وذاك، لو عاد بي الزمن وجلست لأُجيب عن أسئلة ذلك الامتحان، فسأجيب بذات الجواب، وسأضيف: "فكما مات نظامكم التعليمي في بلدان العالم المتطورة، مات هذا المخلوق، وإن موت الاثنين بانتهاء أجلهما!".

مادة الأحياء التي لم أستطع استيعابها يوماً، لصعوبة محتواها وجفافه، تأتيك بمصطلحات في غالب الأحيان أنت في غنى عنها، خصوصا وأنت في تلك المرحلة من العمر! وفي ذات الوقتِ، قد تكون مادة الأحياء من الأهمية بمكان لبعض الاختصاصات العلمية مستقبلا! ولكن هذا الذي حصل معي.

ليس ببعيد عن بلدي العراق، الذي أجبت فيه بذلك السؤال الغريب، حيث أقيم الآن في تركيا، وحيث التطور في جميع المجالات يفرض قوته وهيبته، يبرز مشروع تعليمي رائد أنجزته حكومة رجب طيب أردوغان، عام 2012، ليكون مشروعا مميزا بطابع فريد. ذاك هو مشروع "الفاتح" التعليمي، باستخدام أجهزة "التابلت" الحديثة.


مشروع الفاتح.. فتحٌ مختلف

في وقت يستمر التعليم التقليدي في تلقين عقول الطلاب في العالم العربي، انطلق مشروع "الفاتح" التعليمي في تركيا، وهو عبارة عن قيام الحكومة التركية بتوزيع ملايين من أجهزة "التابلت" على الطلاب الأتراك في مختلف المدارس.

وعن مشروع الفاتح، يروج فيلم دعائي قصير الفكرة والهدف من المشروع، فيظهر في الفيلم طفل يجلس في زاوية حي من أحياء "القسطنطينية"/ إسطنبول، وهو يحمل جهاز "تابلت" في عصر السلطان العثماني "محمد الفاتح"!

يبتدأ الفيديو بمعلمة تركية، تقول لطلابها: نعم أيها الأطفال.. وهكذا تم فتح مدينة "إسطنبول" من قبل السلطان العثماني محمد الفاتح، وتطلب من الطلاب أن يفتحوا أجهزتهم اللوحية قائلةً لهم: هيا أيها الطلاب، لنفتح "التابلت" حول موضوعنا "محمد الفاتح". ويبدأ العرض..

ويجسد الفيديو زيارة السلطان "الفاتح" إلى أحد أحياء مدينة "إسطنبول" فجأة، فيرحب به أهالي الحي، إلا أن السلطان لفت انتباهه فتى لم يعر أي أهمية لزيارة الفاتح، فتوجه نحوه.. إلا أن الفتى لم يكترث أيضا! فبادر أحد مرافقي السلطان وقال:

- خيراً أيها الفتى الصغير.. ماذا تفعل؟

أجابه الفتى: أنا أدرس!

استغرب السلطان محمد الفاتح من جوابه وقال له متسائلاً: هل تدرس بهذا الذي تحمله في يدك؟

- نعم.. هذا تابلت، وكل ما أحتاجه موجود فيه، والدراسة باستخدامه أجمل بكثير، وما أريد أن أتعلمه موجود على أطراف أصابعي.

يلتفت "الفاتح" إلى شيخٍ كبير من مرافقيه ويقول له: هل سمعت يا شيخ؟ كل ما يريد أن يتعلمه هذا الفتى على أطراف أصابعه!

سأل السلطان الفاتح الفتى الصغير مستغرباً: وهل أنا موجود على أطراف أصابعك أيضاً؟

يجيبه الفتى واثقاً: وما اسمك أنت؟

يقول له الشيخ المرافق للسلطان: اسمهُ الفاتح السلطان "محمد فاتح خان".

يتسلل الخوف إلى ملامح الفتى بمجرد سماع اسم السلطان، وتعتريه الدهشة، ويبدأ بالبحث سريعا في محتوى "التابلت" حول محمد الفاتح..! ويطلب لحظة واحدة للبحث في جهازه. بحث الفتى عن السلطان، وما أن وجد ما بحث عنه إلا وقام فرحاً.. وقال للسلطان متسائلاً بصوت مرتفع فخور: هل أنت أكثر الملوك تطوراً؟ وهل أنت من يُتقن 7 لغات؟ وهل أنت من فتح القسطنطينية "إسطنبول"؟

ويظهر السلطان في الفيلم يومئ برأسه مستغربا: أي نعم أنا هو..!

اندهش السلطان مما عرضه الفتى! وأخذ بيده وأجلسه على الأرض.. وسأله: من أين وجدت هذا (التابلت)؟

أجابه الفتى وهو مبتسم فرح: من المستقبل!

طلب الفاتح من الفتى أن يشرح له خصائص "التابلت" الأخرى.. فقال له الفتى مندهشاً: أوووو.. مهما عددتها لن أنتهي..!

اندهش الفاتح، وأخذ بيد الفتى وسار معه وسط الحي والتجمهر، وقال للحاضرين: تجولت في أنحاء العالم.. وفتحت الفتوحات الكثيرة.. ولكن لم أجد مثل هذا الفتح مطلقاً.. فهو فتحٌ مختلف!

يلتفت الفاتح إلى الشيخ المرافق له، ويقول: شيخي، لتخبر كل الشعب عن هذه القصة وعن هذا الفتح.

فيجيبه الشيخ بكل ثقة، قائلاً: "أي والله".. تعبيرا منه عن أهمية الموضوع والفتح الذي رأوه من الطفل.

على إثر ذلك يغادر السلطان "محمد الفاتح" الحي، ويظهر بعد ذلك الفتى وهو يقول بكل ثقة: هل أنتم جاهزون لفتح المستقبل من اليوم؟

هذا، ويختتم الفيديو بمشهد يظهر فيه مناد أرسله السلطان العثماني محمد الفاتح، ينادي الناس في الحي، بأن: "اسمعوا وعوا.. ليخبر الحاضر منكم الغائب.. لقد بدأت حركة التطور وزيادة الفرص.. فمشروع الفاتح قد بدأ".

وعن "مشروع الفاتح"، فإنه وجد ليخدم العملية التعليمية في تركيا من مهدها وحتى التخرج، فقامت الحكومة التركية بتوزيع أجهزة الحاسوب اللوحي "تابلت" مشمولاً ببرنامج "الفاتح"، على 16 مليون طالب وأستاذ، في 260 ألف صف مدرسيّ في مختلف المحافظات التركية الـ81. هذا، ويُعتبر مشروع "الفاتح" من أكبر المشاريع في مجالات التعليم الحديثة في تاريخ تركيا، حيث قُدرت كلفته بـ7 مليارات دولار.

وقال الزعيم التركي، رجب طيب أردوغان، عند إطلاقه المشروع، إن اسم "مشروع الفاتح" جاء تيمنا بالسلطان العثماني "محمد الفاتح"؛ الذي سيتم من خلاله الانتقال بالتعليم المدرسي التركي إلى العالم الرقمي.

ويوفر المشروع للطلاب عالما فريدا من المعرفة، وراحة منقطعة النظير، فبدلا من أن يحملوا كُتباً كثيرة، يحملون موادهم وأخرى معها في جهاز إلكتروني صغير الحجم كبير الأداء. كما يتيح لهم استخدام كل ما هو متوفر من موسوعات وبرامج تعليمية بكافة أنواعها وأشكالها عبر الإنترنت. كما توزع عليهم إدارات المدارس مناهج إلكترونية، وفيديوية وصوتية، وفي مجالات التقنية مختلفة الأبعاد، لشرح وتوضيح السهل والمعقد من مواضيع ومواد المراحل الدراسية للطلاب في المدارس التركية.

ما هذا إلا نموذج تركي مميز يا زعماءنا العرب، وما نحن إلا شعوب ما زالت تسير نحو المجهول، نَحرقَ كل يوم من طاقاتنا العلمية الشيء الكثير.


(العراق)

المساهمون