الغوطة الشرقية... إبادة مكتملة العناصر

ريان محمد

avata
ريان محمد
21 فبراير 2018
469F2FA5-4C50-4DD9-AAE6-CA7EB3A5955F
+ الخط -
مئات ما بين جرحى وقتلى سقطوا خلال اليومَين الأخيرَين في الغوطة الشرقية للعاصمة السوريّة دمشق. هذه هي الحال هناك وسط الحصار والقصف المركّز، يرويها أهل المنطقة المستهدفة ومن يحاول تخفيف مأساتهم.

يبدو أنّ المشهد بات اعتيادياً في سورية. يقضي العشرات في الغوطة الشرقية وتنتشر صور الجثث والأشلاء ويُوثَّق بكاء الرجال والنساء وأنين الجرحى وذعر الأطفال ومن طمرته الأنقاض... ويتكرّر المشهد في مشاهد تختلف تواريخها. وهذه المشاهد ليست من أفلام هوليوودية، بل هي واقع حال نحو 400 ألف سوريّ محاصرين في الغوطة الشرقية للعاصمة السوريّة دمشق. وهؤلاء يتعرّضون لقصف مكثّف بمختلف أنواع الأسلحة، في حين يطغى دوي انفجارات القنابل والبراميل المتفجرة والقذائف على صراخ الجرحى والثكالى، وسط أوضاع إنسانية مأساوية، لا سيّما مع الشحّ الكبير في المواد الغذائية والطبية وانعدام الخدمات، وكلّ ذلك في ظل صمت دولي مطبق.

في ذلك المشهد المتكرر، تكاد تكون الحركة في شوارع مدن الغوطة وبلداتها شبه معدومة، باستثناء سيارات الدفاع المدني وتلك التي تحاول إسعاف من يصاب بجروح ونقل من يسقط قتيلاً، إلى جانب عدد من الناشطين الذين يلاحقون ما يحدث في المنطقة. إلى هؤلاء يتخلّل المشهد الذين أخرجهم الجوع أو العطش من بيوتهم وملاجئهم، بحثاً عمّا يسد رمق عائلاتهم. ويدوّي انفجار أو أكثر، فتعلو عقبه صيحات تطلب النجدة وتستغيث.

ومع القصف المركّز على المناطق السكنية، وثّق ناشطون مقتل عائلات كاملة أو معظم أفرادها من بلدة أوتايا. هناك، تتكدّس العائلة الواحدة في غرفة واحدة. وقد وثّق أول من أمس، الإثنين، مقتل أمّ وخمسة أطفال لها، وأمس الثلاثاء ستّة أفراد من عائلة واحدة من آل شكر في منطقة المرج، في حين يشير ناشطون في اتصالات مع "العربي الجديد" إلى أنّ عائلات عدّة قُتلت خلال الثماني والأربعين ساعة الماضية.

نجا من الغارة التي هدمت منزل العائلة (عمار سليمان/ فرانس برس)

"خايفة نام"

نيفين الحوتري هي أمّ لطفلين ومحاصرة مع عائلتها في الغوطة الشرقية، تخبر "العربي الجديد" أنّه "عندما يشتدّ القصف، أشعر أنّ تكويني الجسدي ناقص. فذراعاي الاثنتان لا تكفيان لاحتضان ولدَيّ وحمايتهما من الخطر. لست قادرة على الاستيعاب أنّني عاجزة عن تغطية قصي ومايا بذراعَي، وأنّ ثمّة أجزاء منهما ما زالت مكشوفة وليسا محميَّين جيداً. أنا عاجزة عن تخبئتهما في داخلي".

تضيف نيفين أنّه "منذ تعلّمت مايا الكلام، اعتدنا أن نتبادل قبل النوم: تصبحي على خير... الله يرضى عليكِ. لم تنسها ولا ليلة واحدة، مهما كانت تشعر بالنعاس. لكنّ ليلة أمس (أوّل من أمس) قالت لي: ماما أنا كتير نعسانة بس خايفة نام. في العادة، هي تنام عند الساعة الثامنة. أمس، بين الثامنة مساءً والحادية عشرة من قبل منتصف الليل، راحت تتردّد إلى الحمام وتسأل أسئلة طفولية لم أجد إجابات لها. لماذا يجري قصفنا؟ متى يتوقف القصف؟ الله يحبنا، أليس كذلك؟ هم، الله لا يحبّهم، أليس كذلك؟". تضيف نيفين أنّه "حتى تطمئنّ مايا، ردّدنا معاً أكثر من دعاء. وغطّيت أذنها بيدي حتى لا تسمع شيئاً، فنامت لمّا تعبت من السهر وتقوقعت في حضني. أمّا أنا، فلا أعرف كيف غفوت. لكنّني أعرف أنّني صحوت بعد أقل من ساعة على الأصوات التي لم تتوقف".

"خبّيني يا ماما"

من جهتها، أم عمران هي أمّ لخمسة أطفال ومحاصرة معهم في الغوطة الشرقية، تشكو لـ"العربي الجديد" أنّه "ليس لدينا مكانٌ نحتمي به. حتى الملاجئ لم تعد تحمينا. فالطيران يستخدم صواريخ تخترق الملاجئ، وقد خسرت عدداً من أقاربي أمس (أوّل من أمس) على الرغم من أنّهم كانوا في ملجأ". تضيف: "كلّما سمعت صوت طائرة أشعر بأنّها سوف تسقط قذائفها علينا. فأحضن أطفالي وأدعو الله أن يحميهم". وتغصّ أم عمران وهي تخبر كيف أنّ "ابنتي الصغيرة تعاني من ذعر شديد، وتردّد جملة واحدة: ما بدّي موت... خبّيني يا ماما". وتتابع أّنه "منذ يوم أمس، لم يتبقّ لدينا ما نأكله، حتى ماء الشرب يكاد ينفد، والخروج للبحث عن طعام أمر خطر في ظلّ القصف الذي لا يتوقف. كذلك لا أستطيع ترك أطفالي وحدهم في المنزل. لا أعلم ماذا أفعل، فالجميع مشغول بالقصف. لا أعلم إن كان أحدٌ سوف يتذكّرنا. أرجو أن يرحمنا الله برحمته، بشفاعة الأطفال".


"حاولتُ رفع رأسه"

أمّا أبو أحمد، فيروي لـ"العربي الجديد" مصرع ابنه. يقول: "خرجت مع ابني يوسف لجلب ماء الشرب، وما إن ابتعدنا عن المنزل قليلاً حتى ارتجّت الأرض من حولنا. لم أعد أرى أمامي. طُرحت أرضاً، وعجزت عن الوقوف. صرت أحاول الصراخ، لكنّني كنت أشعر بأنّ صوتي لا يخرج منّي. وبدأت أبحث عن ابني. كان على الأرض بالقرب منّي. تمكّنت من مناداته مرّات عدّة لكنّه لم يردّ عليّ. فزحفت إليه وحاولت رفع رأسه وهزّه. لم يجب. حينها تمكّنت من الصراخ حتى وصل المسعفون. لكنّه فارق الحياة قبل أن نصل إلى المستشفى... رحمه الله. ولا أعلم ما وضع عائلتي اليوم، فالحيّ تعرض للقصف". يضيف أبو أحمد أنّه "عندما وصلنا إلى المستشفى، كانت الممرات تغصّ بالجرحى. عدد الذين كانوا على الأرض أكبر من عدد الذين كانوا على الأسرّة، في حين كان أفراد الكادر الطبي يحاولون تفقّد إصاباتهم وتقديم بعض الإسعافات الأولية لهم، وإدخال الحالات الأكثر خطورة إلى غرف العمليات الجراحية. لكن، ثمّة من فارق الحياة وهو ينتظر، فالضغط كبير وكذلك النقص في الكادر والمواد الطبية".

في هذا الإطار، يقول سامر وهو ممرّض في أحد المستشفيات الميدانية في الغوطة الشرقية لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوضع كارثي هنا. عشرات الإصابات تصلنا في مشهد مأساوي، وكثيرة هي حالات البتر التي نضطر إليها في الأطراف، بسبب الضغط وعدم توفّر أطباء اختصاصيين". يضيف: "نحن نعاني من نقص كبير في المواد الطبية والأمصال ومضادات الالتهاب وغيرها من المستلزمات"، لافتاً إلى أنّ "الكادر يعاني من إعياء شديد. كثيرون منّا ما زالوا مستيقظين منذ ساعات طويلة". ويتابع أنّ "ألم الناس كبير وإمكانياتنا متواضعة. فالغوطة تتعرّض منذ نحو ستّة أسابيع لاستنزاف أماناتها، وسط حصار مطبق يمنع إدخال الأدوية".

من جهته، محمد الغوطاني متطوّع في الدفاع المدني، يتحدّث لـ"العربي الجديد" عن "مواقف تفطر القلب في الغوطة. أمس (أوّل من أمس) في حمورية، وصلنا إلى نقطة استهدفتها غارات جوية، ورحنا نسمع صوت امرأة تنادي: يا عالم منشان الله ولادي ولادي!". يضيف: "وجدناها والغبار يغطيها. لم تستطع التوقف عن الصراخ وهي تجلس على الأرض وتشير إلى منزل تضرّر جزئياً من جرّاء القصف. فدخلنا إلى المنزل ونحن ننادي على من فيه. فإذا بعدد من الفتيان والفتيات اجتمعوا في إحدى الغرف. ما إن رأونا حتى انفجروا بالبكاء، وراحت إحداهنّ تستنجدنا: أمّي... منشان الله يا عمو أمّي". ويتابع الغوطاني: "الحمد لله لم يصب أحد منهم بإصابات بليغة. كذلك لم نعلم إن كان ثمّة ضحايا في المنزل المجاور لمنزلهم، فقد كان مدمّراً بشكل كامل ويحتاج إلى آليات كبيرة لرفع الأنقاض".

هنا سقطت قذيفة أخرى (حمزة العوجة/ فرانس برس)

"إبادة جماعية"

في السياق، يفيد براء أبو يحيى وهو ناشط في الغوطة الشرقية، "العربي الجديد"، بأنّ "مستشفيات الغوطة الشرقية والمراكز الطبية امتلأت بالمصابين الذين أصيبوا في الغارات الجوية التي استهدفتهم بشكل مباشر، ومن بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، في منطقة تعاني من نقص حاد في المواد والمعدات الطبية من جرّاء الحصار المحكم الذي تفرضه قوات النظام السوري عليها منذ عام 2013". يضيف أبو يحيى أنّ "الهجمة الأخيرة هي الأسوأ التي يشهدها سكان وأهالي الغوطة منذ سنوات، والذين يزيد عددهم عن 400 ألف شخص. وهؤلاء يعانون من ويلات البرد والقصف والجوع والحصار ونقص الدواء، في حين أنّ العملية التعليمية متوقّفة نتيجة إغلاق المدارس بسبب القصف". ويتابع أنّ "يوم أمس (أوّل من أمس) كان يوماً دموياً بامتياز. فقد قُتل فيه أكثر من 100 مدني، من بينهم أكثر من 20 طفلاً، وأصيب أكثر من 600 جريح، من جرّاء القصف. كذلك جرى استهداف فرق الإسعاف والطواقم الطبية والمستشفيات. يُذكر أنّ الأهالي لا يملكون أيّ خيار يذكر سوى الاحتماء في أيّ مكان مع أطفالهم من دون تأمين قوت يومهم".

ويشير أبو يحيى إلى "حالة رعب وهلع وهستيريا أصابت المدنيين، بالإضافة إلى خوفهم على أطفالهم من القصف. لكنّ هؤلاء صابرون، وثمّة إصرار شعبي كبير على الصمود و المقاومة. كثيرون من الأهالي يقولون: ولدنا هنا ونعيش هنا وسوف نبقى هنا ونموت هنا ولن نخرج من الغوطة الشرقية إطلاقاً". ويوضح أنّ "الملاجئ في الغوطة الشرقية قليلة جداً وغير مجهّزة صحياً ولا خدمياً ولا معيشياً، وهي لا تستوعب أكثر من 20 في المائة من الأهالي تقريباً. واليوم، قوات النظام صارت تتعمد استهداف الملاجئ. والإثنين، وقعت مجزرة في بلدات مسرابا وحمورية وبيت سوى من جرّاء استهداف الطيران الروسي الملاجئ بصواريخ شديدة الانفجار اخترقت الأرض وقتلت كثيرين". ويؤكد أبو يحيى أنّ "ما يحصل لا يمكن تسميته قصفاً، بل هو إبادة جماعية. القصف كان أكثر رحمة". ويتحدّث عن "حالات تشنّج كبيرة وانهيارات عصبية بين الأهالي من جرّاء الذعر الشديد"، فيخبر أنّ الناس عند دويّ الانفجارات "إمّا يستلقون على الأرض في محاولة منهم لحماية أنفسهم من الشظايا، وكيف أنّ أحدهم قد يمسك أطفاله ويلفّ حول نفسه بحثاً عن مكان الانفجار في حين يحاول تفقّدهم إن كانت طاولتهم شظية من هنا أو هناك".


"مللنا من النداءات"

إلى ذلك، يقول مدير المكتب الطبي في منطقة المرج في الغوطة الشرقية، الدكتور أنس أبو ياسر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوضع الطبي والإنساني سيئ جداً جداً في الغوطة الشرقية، وقد تدهور بشكل متسارع. وللحظة قبل ظهر اليوم الثلاثاء (أمس) استُهدفت خمسة مراكز طبية بشكل مباشر، الأمر الذي أخرجها عن الخدمة، بالتزامن مع استنزاف كبير للأدوية الإسعافية (أدوية الطوارئ)". يضيف أنّ "أمس (أوّل من أمس) بلغ عدد الشهداء نحو 110، والجرحى أكثر من 500 لتغصّ المستشفيات بهم. ومن ينتظر أمام غرفة العمليات أكثر بكثير من قدرة استيعابها". وبعدما يقطع دويّ انفجار حديثه، يستأنفه أبو ياسر قائلاً إنّ "الأهالي في الأقبية منذ الإثنين بلا ماء ولا مواد غذائية ولا خبز، في أجواء باردة. ليس لديهم أيّ من مقوّمات الحياة. ولا أعرف كيف أصف ما ينتظرنا... نحن اليوم نعيش كارثة". ويكمل: "مللنا من توجيه نداءات استغاثة. الكلّ يعلم واقع الغوطة ولا أحد يرغب في مساعدة أهلها. الجميع يكتفي بالتفرّج على كارثتنا".

ذات صلة

الصورة
من ضربة روسية في إدلب، أكتوبر 2024 (عزالدين قاسم/الأناضول)

سياسة

بدأت "هيئة تحرير الشام" وفصائل المعارضة السورية، معركة واسعة النطاق غربي حلب ضد قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وجهّزت لها عسكرياً وإعلامياً.
الصورة
النازح السوري محمد كدرو، نوفمبر 2024 (العربي الجديد)

مجتمع

أُصيب النازح السوري أيمن كدرو البالغ 37 عاماً بالعمى نتيجة خطأ طبي بعد ظهور ضمور عينيه بسبب حمى أصابته عندما كان في سن الـ 13 في بلدة الدير الشرقي.
الصورة
فك الاشتباك جندي إسرائيلي عند حاجز في القنيطرة، 11 أغسطس 2020 (جلاء مرعي/فرانس برس)

سياسة

تمضي إسرائيل في التوغل والتحصينات في المنطقة منزوعة السلاح بين الأراضي السورية ومرتفعات الجولان المحتلة، في انتهاك لاتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974.
الصورة
من مجلس العزاء بالشهيد يحيى السنوار في إدلب (العربي الجديد)

سياسة

أقيم في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي وفي مدينة إدلب، شمال غربي سورية، مجلسا عزاء لرئيس حركة حماس يحيى السنوار الذي استشهد الأربعاء الماضي.