العين الثالثة

العين الثالثة

12 سبتمبر 2020

(Getty)

+ الخط -

كثيرة هي المحطات المفصلية في حياة الإنسان التي قد تدفعه إلى النظر إلى العالم بصورة أخرى. يستنبت عيناً ثالثةً لرؤية ما كان دفيناً في السابق، ولم يجرؤ على رؤيته، اعتقاداً منه بأن "لا محطة مفصلية ستحصل معي"، لكنها تحصل، وستحصل مع الجميع. الترابط بين الإنسان والمحطات المفصلية في الحياة حتمي، لا يمكن طمسه ولا تجاهله. أساساً، لا يكون السؤال "كيف يمكن تفادي تلك المحطات؟"، بل "كيف يُمكن التعامل معها؟". هنا تحدّث كثيرون عن مفهوم القتال من أجل تجاوز الصعوبات الحياتية أو اليومية، مشيرين إلى ضرورة تحفيز الذات عبر الاستعانة بنقاط قوة الفرد، لكسر أي تدهور حياتي ـ اجتماعي ـ مهني.
في لبنان، لا يمكنك الخروج من دوّامة قذرة من الوضع العام. كل شيء يثير الاشمئزاز على المستوى الدولتي. تعتقد لحظة أن حربك الخاصة هي معهم فقط ومع أنصارهم، لكنك، في وقت ما، تصطدم بذهنية متأصّلة من التفكير اللامنطقي المتراكم، والذي يؤدّي، في النتيجة، إلى كارثة على مستوى العقل. تعتقد أنه يمكن تجاوز ذلك، عبر تصميم جدار حماية ذهنيٍّ يقيك من التورّط مع هؤلاء، إلى درجة تبدو فيها وضيعاً أمامهم، إلا أن اعتقادك خاطئ، لأن الحصار الذي يفرضه عليك أصحاب هذا المنطق قادر على التأثير في تفاصيلك اليومية. انظر فقط إلى طريقة التعاطي مع تداعيات انفجار مرفأ بيروت في لبنان في 4 أغسطس/ آب الماضي، انظر إلى كيفية تلاعبهم في ملف تشكيل الحكومة، وكأن لا أزمة حقيقية في البلاد. انظر فقط إلى كيفية السطو على المساعدات الدولية للبنان على خلفية الانفجار تدرك أنك لن تصل إلى نتيجة معهم، وتعلم أن قتالك الذي سينتهي، في يوم ما، كما كل قتال، إما بفوزك أو بهزيمتك، بموتك أو موتهم، غير مجدٍ طالما أن مقومات قتالك أضعف من مواجهتهم، وطالما أنهم قادرون على إيجاد مجموعات فقيرة من الناس، تسرق بعضها وتقتل بعضها وتهاجم بعضها، باسم "الزعيم" أو "الجوع" أو "الطائفة".
يكفي أنه، في لحظة ما، وفي خضمّ سعيك للقتال وفق مبادئك، تجد نفسك أمام خبر من نوع "وصول قوارب الموت اللبنانية إلى قبرص"، وهي قوارب محمّلة بلبنانيين ومقيمين في لبنان بدأت تصل إلى السواحل القبرصية أخيراً بأعداد متزايدة، أو تجد نفسك مدمّراً أمام رفع الدعم عن الأدوية والقمح والمشتقات النفطية. وفي خضمّ هذا السعي، يدخل لص أو اثنان منزلك لسرقتك، أو تحصل وفاة في عائلتك، وكأن الحياة ترغب، في بعض الأحيان، في تكريس عبثيتها أمام عينيك، بما يضعك أمام "واقعية" لن تنجو منها.
في هذه العين الثالثة، يُمكن رؤية مستقبلك: هل هو في تظاهرات منادية لإسقاط النظام أم للمطالبة بالحقوق البديهية؟ هل هو في تنظيم عصيان مدني يسمح لك في إثبات موقفك؟ هل تسمح لك هذه العين الثالثة في إقفال البلاد أياماً حتى تحصل على حقوقك؟ ربما، لكن مشكلة هذه العين أنها تضعك على تماسِ مع كثير من المفاهيم الإنسانية والمجتمعية، مثل: هل حافز القتال في سبيل بلد ما موجود؟ هل أن الجيل "زد" مشابه لك في تفكيرك ومنطقك، في الأمور الأساسية لا في طرق تحقيقها، أم لا؟
تطرق للحظة وتفكر: حسناً، الأحداث كما كل شيء، تبدأ كبيرة ثم تصغر، وشيئاً فشيئاً تستعيد ما خسرته للحظات في أي حدثٍ يخرق جدار أمنك الاجتماعي. لكنك تدرك، وفقاً للعين الثالثة، أن كثافة الأحداث وتلاحقها لا تجعل أي شيء يصغر، بل تُرسّخ الحصار المضروب عليك، من ضمن الحصار على المجتمع وبالتالي خسارتك، لتصل إلى مفترق طرق في الحياة: إما الاعتراف بالعجز عن التغيير وتقبّله في سياق الموت الرتيب، أو القيام برحلة بحرية إلى قبرص.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".