العولمة في مواجهة التفكيك

العولمة في مواجهة التفكيك

03 مايو 2015

تصميم لـ(أرنست غيل)

+ الخط -

عندما نرى ما يحدث حولنا في العالم من مآسٍ وحروب، نجد أنفسنا في مواجهة تحديات يصعب فهمها واستيعاب تداعياتها، ناهيك عن الآمال والمخاوف التي تستولدها. فمن جهة، توفر لنا العولمة المزيد من المعلومات، وفرصاً متنامية للاتصال، واكتشاف ما يجمع، لكننا نجد، في المقابل، أوضاعاً وتطورات تمعن في التفكيك بين دول العالم، وفي داخلها ببعض الحالات، وتخلف تفرقة عرقية وطائفية وقبلية، وغيرها من الانقسامات المدمرة.

أدت هذه الإشكالية القائمة بين العولمة والتفكيك إلى ما نشاهده ونختبره من وعي معرفي متنامٍ، وفي الوقت عينه، ارتداد مخيف ولّد جاهلية جديدة وعبثية التمرد. هذه الإشكالية غير محصورة في مكان، أو منطقة جغرافية، فهي سائدة، إلى حد كبير، في العالم أجمع ومتباينة في تجلياتها. وجدناها، في الأمس القريب، في مدينة بالتمور القريبة من العاصمة الأميركية واشنطن، كما في مدينة فرغسون في ولاية ميسوري قبلها، حيث وقعت مواجهات عنيفة بين الشرطة ومتظاهرين من الأميركيين الأفارقة، استدعت إعلان حال الطوارئ وتدخل الحرس الوطني. وعلى الرغم من أن الأميركيين انتخبوا باراك أوباما مرتين رئيساً للبلاد، فإن ذلك لا يلغي العنصرية الكامنة في نفوس بعضهم، وإن كانت قد قلصتها قليلاً.

كذلك الأمر، استولدت ثنائية العولمة والتفكيك حكومات تخلت عن مسؤولياتها في حماية المواطن وتمكينه، فكانت الحروب الأهلية العبثية التي نشهدها اليوم، والتي أدت إلى تدمير البنى التحتية لدول ومجتمعات عديدة. كما رسخت فوارق التعددية، بدلاً من تمكين التنوع بين المواطنين في معظم دولنا العربية. وما يحدث اليوم في اليمن وفي العراق وفي سورية، وإلى حد أقل النظام الطائفي في لبنان، ليس إلا تجلياً لتداعيات التعددية على تلك المجتمعات.

من شأن العولمة أن تعزز روابطنا الكامنة، والمكبوتة أحياناً. فها نحن، اليوم، نشعر بالألم العميق إزاء ما حدث في نيبال وضحايا الزلزال الذي ضربها قبل أيام، ونشعر بالأسى تجاه الذين قضوا غرقاً في البحر الأبيض المتوسط، وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا، هرباً من الحروب الدائرة في الدول الإفريقية. ونجد أيضاً أن سرعة التجاوب لكارثة نيبال من المنظمات الدولية، والتي سارعت إلى تلبية حاجات المنكوبين ومعالجة المصابين، تؤكد أن العولمة تساهم في تسريع عملية تقليص المعاناة وإعادة البناء. كذلك في سورية واليمن والعراق، سارعت الهيئات الدولية، كالصليب الأحمر وجمعيات حقوق الإنسان ومؤسسات التغذية والصحة الدولية، إلى معالجة سريعة، وإن بحدها الأدنى، للمأساة الدائرة هناك. تجابه العولمة تداعيات التفكيك في مختلف تجلياته، والسؤال، إذاً، كيف نوظف العولمة في عالمنا العربي، لنوقف التشرذم والتشتت الذي يفتك بنا؟

تتطلب الإجابة على هذا السؤال إيجاد معادلة تنطوي على محاولة عربية جادة، لتأمين إطار يتلقف ما توفره العولمة من معرفة، بل وأن يشارك في خلقها أيضاً. فبتنا، اليوم، نشهد تنامي أيديولوجيات وأفكار شاذة، وكأنها من خارج سياق التاريخ، لا توّلد سوى التفرقة والتشتيت. كما أصبح عالمنا العربي وكأنه منسلخ عن بقية العالم، يدور في فلكه الخاص، ضمن إطار منظومة معرفية خاصة به. جزء من المشكلة أننا ابتعدنا عن التواصل المعرفي مع بقية العالم، وانغلقنا على أنفسنا من دون الالتفات إلى ما يحقق العالم من تطوير للمعرفة. فهذا النوع من المعرفة القائم على التبادل من شأنه أن يساهم في توحيد المفاهيم، ومساعدة الأمة العربية وشعوبها على استعادة واقعية التكامل وتقليص التفكيك الذي نشهده. استيعاب ما توفره العولمة من معرفة لا بد له إن يعبّئ الفراغ الخطير، ويوفر المناعة ضد الشطط والانحراف، وهو يمثل أولوية، اليوم، لخروج أمتنا من نفقها المظلم، ويهيئ الأجيال المقبلة للانفتاح، بدلاً من التقوقع، والالتزام بالتلاحم عوضاً عن التمزق، والمواطنة بعيداً عن الانغلاق المتزمت الذي يعطل احتمالات النهضة.