العوربة بمواجهة العولمة

العوربة بمواجهة العولمة

13 نوفمبر 2018
+ الخط -
أثرت العولمة في مختلف مكوّنات الحياة، وصارت مع مرور الوقت جزءًا منها، وشاركت كذلك في صناعة مجموعة من المفاهيم والأفكار المبتكرة التي باتت متداولة على نطاقٍ عالمي متجاوزة الحدود الجغرافية، لتعبّر عن تجلي العولمة وانتشارها في شتى المجالات، فتمكّنت من تحقيق الهدف الذي تطمح إليه العولمة؛ وهو تحويل العالم إلى قرية صغيرة، وتعزيز الانفتاح والمشاركة والتواصل بين الشعوب والحضارات، بالاندماج مع الثقافات السائدة في المجتمعات التي وصلت إليها، كما كان للمجتمع العربي تأثّر ملموس وواضح بأدوات العولمة، فلم يكن بمنأى عن المجتمعات الأخرى، بل مرتبطًا معها بعددٍ من روابط العولمة الفكرية والثقافية والاقتصادية والفنية والمعلوماتية والتكنولوجية والسياسية.

تسببت العولمة بتغيرات كُلية أو جزئية في الكثير من الأشياء؛ لذلك يجب توخي الحذر أثناء التعامل معها، للاستفادة من مخرجاتها الإيجابية وتجنّب سلبياتها، بهدف إدراك دورها المحوري والأساسي المؤثّر في الاقتصاد، والذي ينعكس على سياسات الدول، ومنظومة القيم والموروثات والعادات الاجتماعية، ومن هنا يمكن القول إنه صار من الضروري الاعتماد على الفكر العربي للتعامل مع مخرجات العولمة مهما كانت طبيعتها، بتوفير الدعم الكافي لتفعيل ظهور ووجود مفهوم فكري عربي قادر على مواجهة العولمة بكافة تفاصيلها، وهذا المفهوم هو "العوّربة" التي تعتبر من المفاهيم الجديدة نسبيًا وغير المألوفة عند الكثير من الناس، وتعتبر أيضًا بديلًا مقبولًا للعولمة، ومن الممكن تعريف "العوّربة" بأنها دعم الإنتاج العربي المشترك للنهوض في اقتصاديات الدول العربية، وتعزيز التكيف والتأقلم مع الابتكارات والمظاهر الحديثة للحدّ من سلبيات العولمة، وإيجاد الطرق المناسبة للدخول في البيئة الاقتصادية العالمية من بوابة عربية.


مثل كلّ شعوب العالم لم يتجاهل العرب أهمية التعامل مع التطوّرات الحديثة التي تغلغلت في حياتهم تدريجيًا، فلا بدّ من تفعيل وجود العوّربة لوضعها بمواجهة العولمة، لتصبح العلاقة بينهما ندية بحتة؛ إذ لا يمكن وضع واحدة مكان الأخرى ببساطة، فالاستجابة العربية للعولمة لم تأتِ في ليلةٍ وضحاها، بل احتاجت إلى حقبة زمنية طويلة حتّى تستطيع التأقلم معها، بالتزامنِ مع تأثيرها في الاقتصاد وقطاعاته المختلفة، فاختلطت تدريجيًا مع الدول القادرة سياسيًا واقتصاديًا على مواكبة صادراتها، بينما أدّت إلى انعزال دولٍ أخرى لم تتمكّن من مواكبتها؛ بسبب عدم استقرارها اجتماعيًا، ممّا أثر في استجابتها الاقتصادية للعولمة وأفكارها.

إن التفكير الجاد في الاختيار بين العوّربة والعولمة قد يحتاج إلى وقت طويل إذا لم يتمّ بناؤه على دراسات دقيقة وواقعية، تساعد على تقليل حدّة المواجهة بينهما، كإنشاء بيئة عمل عربية مشتركة تستخدم مخرجات العولمة، ولكن بآليات ووسائل عربية، أو ابتكار صناعات عربية تمتلك جميع المميّزات التي تجعلها تنضم بسهولة إلى بيئة العولمة، ومن هنا تتضح جليًا بعض من المُعضلات التي تتحكّم بطبيعة المواجهة بين العوّربة والعولمة في الاقتصاد العربي.

سوف تدفع المواجهة بين العوّربة والعولمة الدول العربية إلى الوقوف أمام خيارين، وهما قبول العولمة ومحاولة إيجاد الطرق والوسائل المناسبة للاستفادة منها، أو رفضها واستبدالها تدريجيًا بالعوّربة وآليات وأدوات تطبيقها، وقد تؤدي المفاضلة بين هذين القرارين إلى الوقوع في حيرة فعلية لاختيار الأنسب والأفضل بينهما، كما أن التعامل مع إحداهما يتطلب الكثير من التفكير والتروي قبل اتخاذ القرار النهائي لاختيار أكثرهما قابلية للتنفيذ والتطوير في ضوء الإمكانات والموارد المتاحة لكل دولة، مع ضرورة إدراك كافة التبعات والنتائج المترتبة على السياسة والاقتصاد، والتي ستنعكس لاحقًا على المجتمعات.

لا يُعدّ الاختيار بين العوّربة والعولمة من الأمور الصعبة، بل يحتاج إلى فهمهما وتحليل طبيعتهما بشكل أفضل من خلال تحديد دور كلٍّ منهما في الاقتصاد، فالعوّربة تقدّم مجموعة أفكار عربية مبتكرة تدعم نمو الاقتصاد العربي وتثبّت دعائم وجوده في السوق العالمية، بينما تستورد العولمة الأفكار الجاهزة وتشجع النّاس على التكيف معها، بغض النظر عن مدى استفادتهم منها، ويعتمد ترجيح أي خيار بينهما على دور كلٍّ منهما في مواجهة القضايا المؤثّرة في الدّول العربية، مثل توزيع الدّخل، والبطالة، وارتفاع معدّل النّمو السكاني، وقلّة الموارد، وسعر صرف العملة، والتأمين الصحي، والتقاعد، وتحتاج جميع هذه القضايا وغيرها إلى تفكير عميق جدًا قبل التعامل معها من طريق العوّربة أو العولمة، ومهما كان الخيار بينهما سوف لن يثمر نتائج مفيدة دون تفعيل دور التعاون الاقتصادي الفعّال والبنّاء بين الدول العربية، والذي يجمعها معًا نحو النهوض بالمستقبل العربي.