العملات الرقمية في زمن كورونا

العملات الرقمية في زمن كورونا

28 يونيو 2020
+ الخط -
يشكّل التعامل بالنقود جزءًا أساسيًا من حياة النّاس؛ حيث يعتبر المال من أسرع الأشياء تداولًا خلال اليوم الواحد، فتنتقل بين الأفراد ملايين العملات النقدية يوميًا، ممّا يجعلها أماكن مناسبة لتواجد الفيروسات التي تعلق على سطحها بسهولة، سواء كانت هذه النقود ورقية أو معدنية؛ لذلك ينصح بضرورة اللجوء إلى اتخاذ إجراءات احترازية أثناء التعامل مع النقود؛ من أجل الحدّ من المخاطر التي قد يسببها التلامس المباشر معها، خصوصًا في زمن كورونا.

أثر انتشار فيروس كورونا في نمط الحياة السائد، وعرقل استمراره على الصورة الروتينية المعتادة، فتوقفت المنشآت والمؤسسات عن العمل، والمدارس والجامعات، وتعطلت حركة المواصلات، وأصبح الخروج من المنازل عند الحوادث الطارئة فقط، وهكذا باتت حركة وتنقل الأفراد محدودة جدًا، وقد اتخذت الدول هذه الإجراءات للحدِّ من انتشار العدوى بفيروس كورونا الذي تحوّل إلى جائحة عالمية، وفي خضم ذلك برز دور الإنترنت وأجهزة الحاسوب والهواتف الذكية والتلفاز، بصفتها البديل المناسب للتواصل مع العالم الخارجي أثناء الوجود في المنزل خلال فترة الحظر التي فرضها فيروس كورونا عالميًا، والذي لم يؤثر فقط في أسلوب حياة النّاس، بل امتد تأثيره ليكون من أحد العوامل المباشرة للتسبب بركودٍ اقتصادي بارز؛ بسبب توقف الكثير من القطاعات الاقتصادية عن العمل.


ساهم فيروس كورونا في عددٍ من التغيرات الاقتصادية على مستوى العالم، ودعم أدوات كانت حتّى زمن قريب ثانوية أو قليلة الاستخدام، مثل وسائل الدفع الإلكترونية التي لم تكن في مجال اهتمام كثير من النّاس سابقًا؛ بسبب عدم إتقان استخدامها، أو الخوف من التعرض لانتهاك الخصوصية وسرقة البيانات الشخصية؛ لذلك ظلّ الاهتمام باستخدام وسائل الدفع التقليدية في تنفيذ الكثير من المعاملات المالية، وتسديد الفواتير والالتزامات، هو السائد بين الغالبية، كما ظهرت في الأفق عملات انخفض بريقها في الفترة التي سبقت هذه الجائحة، لتعود في الآونة الأخيرة خلال مرحلة كورونا إلى الظهور بوضوح، وهي العملات الرقمية التي باتت البديل الأكثر أمانًا وحماية من نقل العدوى بفيروس كورونا.

يمكن القول إنّ كثيرًا من العوامل ساهمت في تعزيز انتشار العملات الرقمية بين شريحة واسعة من الأفراد خلال أزمة كورونا، وتقسم إلى قسمين، وهما: العوامل السابقة لكورونا، والعوامل المتزامنة مع انتشارها وما نتج عنها من تبعات، فمن العوامل السابقة احتدام الحرب التجارية الأميركية الصينية التي تحوّلت إلى صراع نفوذٍ في ظلِّ اقتصادٍ يعاني من أزمات خانقة في كثيرٍ من القطاعات، التي أصبح معظمها يواجه ركودًا ملحوظًا، ثم تأتي العوامل المتزامنة مع كورونا، وتبدأ من التخوف بالتعامل مع العملات التقليدية ذات القابلية لنقل العدوى، والذي انعكس بدوره على العملات الرقمية، فازدادت أسعار شرائها؛ لأنها غير خطيرة على صحة الإنسان، ولا تعدّ وسيلة للإصابة بالفيروس أثناء إتمام العمليات المالية بمختلف أشكالها؛ حيث صار من الصعب تنفيذها بطرق الدفع التقليدية، التي أوقفها فيروس كورونا تمامًا خلال فترة الحجر الصحي المنزلي.

من الأسباب الأخرى الدافعة لعجلة الانتشار السريع للعملات الرقمية اتخاذ الكثير من الأفراد؛ خصوصًا المستثمرين وأصحاب الأعمال العملات الرقمية بديلًا مناسبًا ومستقرًا للعملات التقليدية، التي تأثرت أسعار صرفها خلال فترة كورونا، وهكذا قل الطلب على العملات الصعبة، كالدولار الأميركي، وازداد الطلب على العملات الرقمية والذي ساهم في زيادة معدل المعروض منها على الأفراد الذين توجهوا إليها، لما وفّرته من إمكانية لاستمرار أعمالهم عن بُعد أثناء وجودهم داخل المنازل، مع سهولة توظيفها في العمليات المالية المختلفة؛ لأنها تتميّز بقبول عالمي وسرعة في التداول خلال وقت قصير.

باتت الآن جائحة كورونا لاعبًا رئيسًا ومحركًا مباشرًا من محركات الاقتصاد العالمي، والتي لم يقتصر أثرها فقط في ازدهار العملات الرقمية، بل تجاوزها إلى التسبب بضرر فئة واسعة من العاملين ذوي الدخل المتدني أو الذين يعملون بأجرٍ يومي، مثل: العمال في قطاعات الإنتاج والخدمات، فقد توقفت مصادر دخل الكثير منهم نتيجة كورونا، وأصبحوا بلا عمل، ليرتفع معدل البطالة عند هذه الشريحة العاملة.

أرى أنه لا يمكن الاعتماد على العملات الرقمية كبديلٍ عن العملات التقليدية في الوقت الحالي، بالتزامن مع محدودية توفّر الإمكانيات الكافية لاستخدام تقنيات هذا النوع من العملات، ومن هنا تكون الصورة المستقبلية المتوقعة للعملات الرقمية متأرجحة بين نجاحها في حجز مكان لها في السوق المالي، ومنافسة العملات الصعبة والنقود التقليدية، أو فشلها وتوقف نفوذها عند حدٍّ معين إلى حين توفّر جميع العوامل المساندة لها، وإن ترجيح أي خيار سوف يغلب على الآخر بحاجةٍ إلى الانتظار، وترقب نتائج تأثر الاقتصاد بشتى مجالاته جراء تداعيات أزمة كورونا على المدى الطويل.