Skip to main content
العلم والفلسفة.. من الذي يلعب النرد؟
منى حسن
جزء من "غيمة كمومية" لـ أنتوني غورملي (كريس راتكليف)

"إذا لم يعجبك ذلك (حقيقة الطبيعة) فلتذهب إلى مكان آخر. كون آخر ربما. حيث تكون قوانين الطبيعة أسهل ومُرضية فلسفيًا ومُريحة نفسيًا".
- ريتشارد فاينمان


من نحن؟ وما هي كل الأشياء من حولنا؟ ممّ تتكون؟ وكيف أتت كُلها إلى الوجود؟
قدّم الفلاسفة عبر التاريخ آلاف النظريات للإجابة عن هذه الأسئلة. حتى تجرّأ في هذا الزمان، الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ، أن يقول في الصفحة الأولى من كتابه، "التصميم العظيم": "ماتت الفلسفة!".

وباعتباره تحدث عن موت الفلسفة (في العلم) باعتبار الفيزياء وصلت أخيرًا لمجموعة نظريات رياضية تصف كامل نشوء الكون؛ فقد أعادت عبارته تلك عاصفة جدلية ليست بجديدة بين الفيزيائيين والفلاسفة، يتبادل فيها كلا الطرفين الاتهامات، والشتائم أحيانًا.

منها ما يُذكَر عن الفيزيائي لورانس كراوس نعتهُ للفيلسوف ديفيد ألبرت بالمُغفل. المعروف عن ألبرت أنه اتهم بلغة تهكمية الفيزيائيين بأنهم لا يجدون الإجابات المتوقعة منهم عن طبيعة الكون، قائلًا إن الفيزياء الكمّية هي مُجرد احتمالات وتوقعات ولا تعطي إجابات يقينية يُمكننا فهمها. ألبرت ليس الوحيد الذي يُحمّل الفيزياء مسؤولية إيجاد إجابات مُرضية للفكر الفلسفي الكلاسيكي.

الأصل في العلم هو البرهنة على الفرضيات بدليل من التجربة؛ أي بسؤال الطبيعة ومراقبة إجاباتها.  لكن عملية المُراقبة (أو القياس) في الأبعاد الصغيرة تُؤثر في نتائج التجارب؛ وذلك ليس بسبب مُشكلة في القياس، بل بسبب حقيقة طبيعة "المادة" في الأبعاد الذرّية.

تتميز المادة في تلك الأبعاد بما نُسميه "طبيعة مزدوجة"، موجية وجسيمية. ذلك يعني أن المادة في أصلها ليست جامدة ومحصورة في مكان واحد فقط، كما نفهمها في عالمنا الكلاسيكي. وهي ليست موجة وليست جسيمًا، بل تحمل خصائص الموجة وخصائص الجسيم. في الحقيقة، لا يُمكن التعبير بدقة عن طبيعة المادة في الأبعاد الصغيرة جدًّا بلغة نفهمها؛ لأن لغتنا تُعبر عمّا نعرفه في الأبعاد التي نعيش بها نحن.

كان الألماني فيرنر هايزنبرغ هو من "أنقذ" الفيزياء حينما وضع معادلات مبدأ اللايقين (أو مبدأ الشك)؛ حيث غيّر مُعادلات نيوتن بالكُلية وقَبِل بعدم اليقين كـ "خاصية" أُخرى من خصائص الطبيعة. فبسبب الطبيعة ذاتها، لا يُمكننا أن نحصُل على كُل الاجابات اليقينية التي تلزمُنا لوصف جُسيم كمّي عند لحظة ما.

تطورت النظرية الكمّية حتى أصبحت أداة دقيقة لوصف الطبيعة من خلال التوقعات والاحتمالات فقط! ليس لأن الفيزيائيين لا يقومون بعملهم على أكمل وجه كما يعتقد ديفيد ألبرت وآخرون، بل بسبب حقيقة "العشوائية" في الطبيعة نفسها.

على سبيل المثال، يمكن لنا أن نعرف في ظروف مُعينة أنَّ جُسيمًا كمّيًا ما سيعبر حاجزًا معينا بنسبة واحد في المئة مثلًا؛ أي أنه من كُل مئة سيعبُر واحد فقط الحاجز، لكن ما لا يُمكننا معرفته هو أي واحد منها سيفعل ذلك.

حارب آينشتاين النظرية مع أنه ساهم في تطويرها. لكنه لم يشأ التسليم بحقيقة أن قوانين الطبيعة غير حتميّة، وقال عبارته الشهيرة: "الله لا يلعب النرد". رد عليها هوكينغ في ما بعد واصفًا ما أضافه وآخرون للفيزياء الحديثة بالقول: "الله لا يلعب النرد وحسب، بل في بعض الأحيان يرمي النرد حيث لا يُمكننا رؤيته".

مات آينشتاين وهو يحاول العثور على قوانين تُعيد الحتمية والسببية المُباشرة لوصف الكون. لكن النظرية الكمّيّة بقيت حتى يومنا هذا واحدة من أدق النظريات في تاريخ العلم وساهمت في إنتاج تكنولوجيا ضخمة غيّرت العالم.

ستظل المعاني الفلسفية من وراء النظرية محل جدال، لكن لا بُد من إيجاد بديل عن الفكر الفلسفي الكلاسيكي المحصور في أسئلة لا تتلاءم مع طبيعة العلم الحديث؛ فهي ليست إلا "مضيعة للوقت، ولا تُساهم حقًا في فهمنا للطبيعة"، بحسب تعبير نيل دغراسي تايسون.


الفن مُلهِمًا
إن العلم محصور اليوم لأن التقنيات التكنولوجية اللازمة لإجراء التجارب العلمية متأخرة جدًّا عن اكتشافات الفيزياء النظرية. عدا عن أننا محصورون في مقاييس طبيعية مُحددة نحتاج لأن نَخرُج منها حتى نفهم الطبيعة. يبدو ذلك مستحيلًا؛ إذ إننا نحتاج في الواقع إلى أن نذهب في مقاييس عالم الذرة مثلًا، أو أن نسافر بسرعة الضوء.

يقول تايسون: "لا أحتاج من الفنان أن يصوّر لي الحقيقة كما تبدو، لأنني أستطيع أن أراها بالتلسكوبات، أنا أحتاج من الفنان أن يأخذني إلى أماكن جديدة".

قد يكون فيسلوفٌ ما أشار إلى فكرة فلسفية تتلاءم مع فلسفات الفيزياء الحديثة، لكن هذه الإشارات قد توجد أيضًا في كلام الشعراء ولوحات الفنانين الغامضة؛ فهي تتلاءم مع الطبيعة الغامضة في الكون ولا تفرض على الناس الاعتقاد بأي فلسفة.

كذلك في العلم، نجد أن الشك وعدم المعرفة هي الإجابة الحقيقية الوحيدة التي تُرافق كُل إجابة علمية جديدة. وإن كان ذلك يسبب الخوف وعدم الراحة للكثيرين؛ فقد يجد فيه آخرون متعة تُتيح لهم حُرية الخيال والتأمل في الاحتمالات التي نشأ من بينها التصميم الكوني من دون تحميل الإنسان مسؤولية العثور على إجابات يقينية.