العرب بين تطبيعيْن

العرب بين تطبيعيْن

22 اغسطس 2020
+ الخط -

رفعت الخارجية الأميركية، في يونيو/ حزيران 2018، السرّية عن وثائق المفاوضات المصرية الإسرائيلية في "كامب ديفيد". تفاصيل عديدة لم تكن مفاجئة، كخلافات أنور السادات مع مستشاريه، إلا أن جانباً لافتا قد ظهر، وهو أن المفاوضات كادت تنهار أكثر من مرة بسبب ملف مستوطنات سيناء. 

تُظهر الوثائق التي عرضها الصحافي المصري، أحمد زكي، على "بي بي سي" أن السادات بدأ المفاوضات بطموحٍ مبالغ فيه، لكن سرعان ما ظهر الموقف المتصلب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، ليس فقط بشأن مستوطنات الضفة الغربية، بل أساسا في رفضه تفكيك 13 مستوطنة إسرائيلية في سيناء وعشرة مطارات، حتى أنه يعرض تحويل المطارات إلى الإدارة الأميركية. وفي مشادّة حادة، يشكو السادات من أنه يتلقى إهانة إسرائيلية بعد كل ما تحمّله، فيرد بيغن بأن من الممكن أن تمنح مصر ألفي مستوطن إسرائيلي الإقامة الدائمة، وبهذا لن يمثل بقاؤهم مساسا بسيادتها، ليرد السادات بأنه لا يرى فائدة من مواصلة المفاوضات.

يعطينا هذا المشهد لمحة عن الاختلاف الجذري، من حيث لحظة التأسيس بين التجربة المصرية وخطوات عربية تدّعي وصلا بها اليوم. وعلى الرغم من كل الجدل الداخلي بشأنها، كانت المعاهدة المصرية ندّية، بمعنى أنها جاءت بعد حربٍ أحرز فيها الجيش المصري نجاحاً غير مسبوق، لذلك حصدت مصر مكاسب أبرزها استعادة كامل سيناء، فضلا عن مساعدات عسكرية مليارية من الولايات المتحدة.

ومن زاوية أخرى، كان السادات تحت ضغوط جسيمة. أدّت سماته الشخصية وحساباته السياسية غير الموفقة إلى أن يتخلى مجانا عن حليفه السوفييتي، قبل أن يُتم اتفاق شراكته مع حليفه الغربي الجديد، وبالتالي لم يعد مضموناً أن يغادر المفاوضات، ليعود إلى الحرب بلا شريك. كما أن المجتمع المصري كان قد تعرّض لإرهاق جسيم. لنحو عقد، كان يتم تجنيد دفعات الخريجين بالكامل. أمضى والد أحد أصدقائي ثماني سنوات مجندا.

في كتابه "قصة الاقتصاد المصري"، يشرح الراحل جلال أمين كيف انهارت خطط التنمية الناصرية بعد هزيمة 1967، وأن مساعدات الدول العربية لم تعوّض خسارة موارد قناة السويس والبترول، وكلفة تهجير سكان محافظات القناة، فضلا عن كلفة الحرب نفسها.

الاختلاف الجذري الثاني هو في مسار التطبيع. منذ اللحظة الأولى، جهرت قطاعات واسعة من المصريين برفض المعاهدة، وفندت سردية النظام، وتمت بلورة ذلك في حراكٍ بالأحزاب والنقابات، وسمح النظام المصري بذلك، بل تواطأ معه أحيانا. وفي سيرته الذاتية، يحكي عبد الوهاب المسيري أن قسمه في الجامعة تلقى خطاباً من الوزارة عن تفعيل التعاون مع الجامعات الإسرائيلية، فثار مطالباً بردّ حاد، لكن الإداريين أخبروه أن الأمر مجرّد إجراء شكلي يكفي تجاهله.

وللمفارقة، استمرت إسرائيل في موقع العدو الاستراتيجي، حيث ظل خطاب "الشؤون المعنوية" في الجيش المصري يلقن الجنود أن هدفهم حماية البلاد منها. وكشفت وثائق "ويكليكس" عام 2010 أن وزير الدفاع الأسبق، المشير حسين طنطاوي ووزير الدولة السابق للإنتاج الحربي اللواء محمد العصار رفضا بعناد ضغوطا أميركية لتغيير تسليح الجيش إلى معدّات مكافحة الإرهاب، واحتج مسؤولون مصريون على امتلاك إسرائيل "أسلحة غير تقليدية".

على المستوى الخطابي، استمر النظام المصري في سياساته المزدوجة، حتى أننا شهدنا إسقاط البرلمان عضوية توفيق عكاشة عام 2016 لدعوته السفير الإسرائيلي إلى العشاء. كما أنتجت شركات تملكها المخابرات المصرية أخيرا أعمالا فنية تستعيد زمن الحروب مع إسرائيل، مثل فيلم "الممر" ومسلسل "النهاية".

ولكن ثمة تشابهات أيضا بين التطبيعيْن، القديم والجديد، فكلاهما يأتي فوقيا، عبر حكومات غير منتخبة. ولكن هنا لا يجب إغفال أن محاربة إسرائيل جاءت على أيدي حكومات استبدادية أيضا، وبلا آليات محاسبة شعبية لنتائج هذه الحروب.

الخطوة الأولى دمج القضية الفلسطينية بقضية التحول الديمقراطي، وأوّل العرب بذلك هم الفلسطينيون أنفسهم. وهم من عليهم بلورة قيادة موحّدة تقدّم إجابات على أسئلة استراتيجية، مثل الموقف من "أوسلو"؟ السلطة الوطنية؟ حل الدولتين على حدود 1967 أم حل الدولة الواحدة؟ ومن المؤسف أن سلطتيّ الضفة الغربية وقطاع غزة لم تقدما نموذجا مختلفا عن أغلب الدول العربية. 

إلى فلسطين طريق واحدٌ يمر عبر صندوق اقتراع.