العراق نموذجاً للدولة الفاشلة

العراق نموذجاً للدولة الفاشلة

21 يونيو 2020
+ الخط -
لم يكتف المحتل باحتلال العراق وإسقاط النظام وحل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وتدمير البنى التحتية وقتل العلماء .. إلخ، وإنما أراد تدمير العراق دولة ومجتمعا. ومن أجل ذلك، حرص على تصفير ما تبقى من الدولة، لمنع أية محاولة لإعادة هيكلتها وإقامة مؤسساتها وبناها التحتية بالقدر الذي يوفر للمواطنين حياة كريمة، أو على الأقل توفير أبسط مقومات الحياة، كالكهرباء والماء والدواء، حال دول عديدة ترزح تحت الاحتلال. ومن أجل ذلك، تعاون الأميركان مع دول إقليمية، وفي المقدمة منها إيران، العدو التاريخي للعراق، مقابل مكاسب سياسية واقتصادية. لينتهي إلى اختيار مجموعة من الأشرار، ليتحكموا في إدارته، من خلال صيغة مبتكرة سموها "العملية السياسية"، واتخذوا من الحكومات المتعاقبة آلة هدم وتخريب، وصولا إلى جعل العراق دولة فاشلة بامتياز. 
دعونا نتابع هؤلاء الأشرار، ونرصد أدوارهم المخزية. على سبيل المثال، قامت حكومة إياد علاوي المؤقتة بدور جسر عبور لقوات الاحتلال للدخول إلى المدن العراقية المقاومة، وهدمها على رؤوس ساكنيها بالأسلحة كافة، بما فيها المحرّمة دوليا، مثل مدينة الفلوجة. وتعهدت حكومة إبراهيم الجعفري بإشعال نار الطائفية. وعقد نوري المالكي، في ولايته الأولى، معاهدات الذل والعار مع المحتل الأميركي. وفي ولايته الثانية، أدخل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي الإجرامي ليحتل ثلث مساحة العراق. وأخذت حكومة حيدر العبادي على عاتقها تدمير المدن التي احتلها "داعش"، مثل الموصل والفلوجة والرمادي وصلاح الدين، بذريعة طرد هذا التنظيم. أما
 حكومة عادل عبد المهدي فقد انتهى عهدها بقتل مئات الثوار على يد أجهزته القمعية والمليشيات المسلحة والحرس الثوري الإيراني. وبالتالي، ليس مستبعدا إطلاقا أن يكمل رئيس الحكومة الحالي، مصطفى الكاظمي، هذه المسيرة المجللة بالسواد. خطاباته عن الشرف والنزاهة وحب الوطن نسخة طبق الأصل من أحاديث أسلافه الكاذبة، ولا تغير القرارات التي اتخذها بتخفيض الرواتب، أو تقليص بعض النفقات، أو استعادة بعض الأموال المسروقة، هذه الحقيقة. إذ من دون ذلك، لا يمكن للكاظمي دفع رواتب الموظفين والعمال، الأمر الذي يؤدي حتما إلى اشتراك كل العراقيين من شماله إلى جنوبه في الثورة دفعة واحدة، أو في يوم واحد. ومع ذلك، تراجع الكاظمي عن هذه القرارات.
لا نحتاج إلى جهد، أو نظرة ثاقبة، لمعرفة مدى نجاح هؤلاء الأشرار في إقامة دولة فاشلة بامتياز، إلى درجة يصعب إصلاحها بوجودهم، فإذا نظرنا إلى مواصفات الدولة الفاشلة نجدها واضحة وجلية في العراق، بل ومطبقة بحذافيرها، فالدولة تكون فاشلة وفق المعايير العالمية، إذا عجزت عن بسط الأمن فى ربوع أراضيها، وأخلت بمبدأ تكافؤ الفرص بين مواطنيها، وفضّلت فئة على غيرها من المواطنين، وألغت مبدأ المساواة بين الناس، وكثرت الشروخ والصدوع في نظامها القيمي والأخلاقي، وتعطلت فيها المسارات القانونية، وفسدت النخب الحاكمة، وتهدّمت البنى التحتية وفقدت الخدمات. ويصعب، إن لم يكن مستحيلا، التخطيط لحياة المواطن تخطيطا بعيد المدى، أو حتى متوسط المدى، بل وقصير المدى. وفي الدولة الفاشلة يشيع الكذب والنفاق شيوعا لا حد له ولا ضابط، وتصبح أجهزة الحماية من أعداء الداخل وأعداء الخارج كسيحة. وفي الدولة الفاشلة توأد الأفكار النافعة في مهدها، وتنظم عمليات ممنهجة لتغييب العقول لصالح شرذمة قليلة، وفي الدولة الفاشلة تختلط الأشياء اختلاطا عظيما، وتكون الغلبة والظهور لتوافه الأشياء والبشر، وفي الدولة الفاشلة عادةً ما يصير الصواب خطأ إلا في القليل، والسير في الطريق المستقيم شبهة، وتفرض قراراتٍ صارمةً تجاه من يعارضها، وتلجأ لمصادرة الحريات بالسجن والترهيب والتعذيب والقتل لكل من يفضح سلوكها، ويشكّل تهديدا لها. وفي الدولة الفاشلة، تكون المؤسسات محطّمة، لأن المسؤولين عن إدارتها يستولون على خزينتها، وبشكل قانوني، تجنبا للمساءلة، وحفاظا على ما تبقّى من سمعة وشرف افتراضيين، يتطلبهما ادّعاء الدين والتدين لتمرير بضاعتهم الفاسدة، فهؤلاء على سبيل المثال يطرحون مشاريع كاذبة، ويرصدون أموالا فلكية لشراء آلات حديثة، لا تصل إلى معامل لا وجود لها إلا على الورق.
تُرى، ألا تنطبق هذه المواصفات على الدولة في العراق كاملة غير منقوصة؟ وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلا، ترى هل في وسع أي مواطن عراقي الوثوق بأي من هؤلاء الأشرار، أو بالكاظمي؟
ولكن هذا ليس كل شيء، فهذه الدولة الفاشلة التي حرص المحتل على إقامتها في العراق لم تأت برغبة من هذا الرئيس الأميركي أو ذاك؟ وإنما قامت استنادا إلى نظرية الفوضى الخلاقة التي 
صاغتها النخب الأكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة، وكبار العقول الاستراتيجية، لتكون خلاقة بالنسبة لمصالح أميركا، ومدمرة بالنسبة للأوطان والشعوب. ولكي لا نطيل أكثر، من بين مفردات هذه الفوضى الخلاقة، تشجيع النزاعات الداخلية ودفع مكونات المجتمع للاقتتال فيما بينها، كأقوام وطوائف، وكتابة دساتير ملغومة وسن قوانين ملتوية، وإقامة قواعد عسكرية، وإشاعة الحروب وتقسيم الدول. وقد حصل هذا كله في العراق بعد الاحتلال، أليس كذلك؟
أما الإرهاب والطائفية، فهما لحمة نظرية الفوضى الخلاقة وسُداها، فأينما حل الإرهاب تستيقظ النزعات الطائفية، أو تزداد حدّة واشتعالًا، لأن تنظيمات الإرهاب لا تعرف معنى الحوار مع الآخر، ولا تؤمن به أصلا، لأنها تريد فرض منهجها ورؤيتها بالقوة والترهيب، رافضةً كل فكر يخالف فكرها، أو رأيٍ لا يتماشى مع هواها. بل استخدم الإرهابيون الطائفية سلاحا ضمن ترسانة أسلحتهم لضرب الاستقرار، وتقويض السلم الاجتماعي وتوسيع مشاعر الانقسام. وهذا ما يفسّر وجود المحتل وراء ظهور "القاعدة"، وبعده "الدولة الإسلامية"، فقد تمكنت هذه التنظيمات الإرهابية من تقديم خدمة جليلة لنظرية الفوضى الخلاقة، حيث أججت النعرات والمخاوف الطائفية، واستهداف الأقليات، مثل المسيحيين والإيزيديين والآشوريين بطريقة ممنهجة. وقد حصل هذا في العراق بعد الاحتلال، أليس كذلك؟
ومع ذلك كله، ما زال بعض الذين يعيشون على فتات موائد الحكام يتغاضون عن هذه الحقائق، ويواصلون دعواتهم إلى احترام الدولة والحكومة العراقية، ومنح مصطفى الكاظمي الفرصة الكاملة للمضي في تحقيق "برنامجه الإصلاحي"، وهم بذلك يريدون تغطية الشمس بالغربال. بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يعتبرون الثوار متطرّفين والعراقيين متمرّدين على الحكام، وأنهم لا يعرفون ماذا يريدون، أو وصفهم بشعب متقلب المزاج، ويعيش حالة من الازدواجية .. إلخ. في مقابل ذلك، يكيلون المديح للكاظمي، ويعتبرونه الشخصية التي أجمعت عليها أكثر القوى السياسية، وأنه يصلح لأن يكون قائد المرحلة المقبلة والمنقذ المرتجى. أما أدباء السلاطين وشعرائهم فقد نظموا في الرجل مدائح شبيهة بالمدائح النبوية، حيث وصفوه بابن الشعب البارّ الذي جاء من وسطهم وعاش آلامهم وشعر بمأساتهم، واقترب جدا من فهم مشكلاتهم ووضع الحلول لإنقاذهم من محنتهم ومعاناتهم. ولولا الخشية من ردود الفعل، لوصفوه بأنه المهدي المنتظر الذي سيملأ أرض العراق عدلا وقسطا، بعد أن ملأها الآخرون ظلما وجورا. في حين نسي هؤلاء المرتزقة أن كل هذه القوى السياسية التي أجمعت على الكاظمي فاسدة.
باختصار شديد جدا، الدولة في العراق فاشلة بامتياز، وإصلاحها بوجود هؤلاء ضرب من المستحيل. ولا بد والحالة هذه من دعم الثورة العراقية وإسنادها والمشاركة فيها، فهي الطريق الوحيد لكنس الأشرار، خصوصا أن هذه الثورة تستعد لإطلاق موجتها الثالثة التي بات موعدها قريبا.
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي