العراق.. بيضة قبان المنطقة

العراق.. بيضة قبان المنطقة

14 سبتمبر 2014
+ الخط -

عاشت المنطقة منذ تقسيمها في اتفاقية سايكس- بيكو، حتى دخول الولايات المتحدة الأميركية إلى العراق العام 2003، استقراراً وتثبيتاً شبه كامل للحدود الجغرافية بين دولها، ورافق ذلك استقرارٌ آخر في التوزيع الديمغرافي لأنظمة الحكم في دول المنطقة، والذي يتضح أنه لم يكن عشوائياً أو عفوياً، بل كان مدروساً بعناية كبيرة ممن رسم الخريطة الجغرافية والديمغرافية للمنطقة.

هذا الاستقرار الذي فرضته الدول الكبرى، كان من المفترض أن يترافق مع استقرار على جوانب الحياة الأخرى، والتي تكرس الاستقرار بشكله العام في هذه الدول، وتحصنها من الدخول في غياهب الفقر والتخلف والجهل والتبعية والانقياد السهل، وغير ذلك من عوامل كان لها الأثر الأكبر في تهيئة المناخات المناسبة لظهور مبررات وذرائع حضور الفوضى وتفاقمها لتصبح جائحة تهدد الاستقرار الجغرافي والديمغرافي.

ونتيجة التهاون في تحصين الاستقرار المذكور، دخلت المنطقة في فوضى عارمة، وعاشت حروباً ونزاعات وصراعات كثيرة، وكان دخول القوات الأميركية وحلفائها إلى العراق العام 2003 من أهم نتائج هذا التهاون، ومن أهم أسباب ظهور التخوف من التغيير في الحدود الجغرافية والتوزع الديمغرافي الذي قد يحصل في المنطقة، حيث انتقلت مقاليد الحكم في العراق من أيدي الطائفة السنيِّة إلى أيدي الطائفة الشيعية، ما اعتبر زعزعة لاستقرارٍ كان سائداً قبل هذا التاريخ، ويحصِّن المنطقة بشكل أو بآخر من الانزلاق إلى حضيض الاقتتال الطائفي والمذهبي، خصوصاً أن العراق يقع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية شرقاً، وسورية غرباً، وهي المرتبطة جغرافياً بلبنان، وتتمتع هذه الدول الأربع تاريخياً بتنوع ديني وعرقي وإثني وطائفي ومذهبي، وهو ما استثمره بعضهم باتجاهات سلبية، حيث تم التحذير من هلال شيعي، يمتد من جنوب لبنان إلى إيران عبر سورية والعراق، قد يشكل تهديداً لباقي مكونات المنطقة، وخصوصاً السنَّة منهم، وذلك استناداً إلى الحال البائسة والهزيلة للعالمين، العربي والإسلامي، في القرون السابقة التي أفرزت كمّاً كبيراً من الخلافات والمفاهيم والأفكار المتطرفة والإقصائية والتكفيرية، كما أنتجت جماعات وتنظيمات وحركات، تمكَّن عددٌ منها من تولي مقاليد الحكم في بلدان في المنطقة، ومن التأثير بشكل كبير على قرارات حكومات ودول أخرى.

تداعيات هذا التغيير في المنطقة منذ العام 2003، والمتمثلة بالوجود الأميركي بعد احتلال العراق، والفوضى المقصودة التي دخلت المنطقة بها، إضافة إلى التهديد القديم المستمر الذي تشكله إسرائيل، والمخطط الذي يجري العمل عليه لتصفية القضية الفلسطينية، وما استتبع ذلك من تداعيات، والتحديات التي تواجهها المنطقة، حالياً، في مواجهة التنظيمات الإرهابية، وخطرها على استقرار البلدان وسيادتها، وتحصينها من خطر التقسيم والتفتيت الذي يهددها، إضافة إلى المخاطر الأخرى المتمثلة بالأفكار المجرمة والهدَّامة التي انتشرت كالنار في الهشيم، إمعاناً في إضعاف المنطقة المتهالكة أصلاً، فرض ذلك كله تحالفات واصطفافات أمعنت في تعرية الشرخ الكبير بين مكونات المنطقة على أُسس مذهبية وعرقية وإثنية وغير ذلك من نقاط اختلاف. وما يجري الآن على الأرض من تناحر وتقاتل وعنف بين هذه المكونات يؤكد أن التعايش بينها لم يكن بدوافع ذاتية بحتة، بل كان، في غالبيته العظمى، تعايشاً مفروضاً بقوة السلطة الحاكمة.

ظهور تنظيم داعش الذي استغل الحال المتردي بين الحكومة العراقية والمحافظات والعشائر ذات الأغلبية السنية ليحقق انتشاره الواسع والسريع على أجزاء كبيرة من العراق، والتبرير الذي ساقته دول تعترض على السياسات الداخلية والخارجية للحكومة العراقية، برئاسة نوري المالكي، لتوصيف ما جرى على أنه ثورة ضد المالكي وممارساته الخاطئة في التعامل مع السنَّة في العراق، باعتبارهم شريحة مهمة وكبيرة من الشعب العراقي، هذا دفع إلى الواجهة ضرورة أن يكون هناك تمثيل وحضور يناسب حجم هذه الشريحة وثقلها في العراق ودورها التاريخي في قيادة هذا البلد، ونسج علاقات مهمة مع دول الجوار والمنطقة، وجاءت ممارسات داعش وارتكاباتها بحق المواطنين العراقيين على مختلف انتماءاتهم المذهبية والسياسية والطائفية، لتظهر لأبناء هذه العشائر والمحافظات والدول الداعمة لها أن هذا التنظيم يجب محاربته والتخلص منه، وعلى الحكومة العراقية أن تتخذ الإجراءات التي تعيد لأبناء هذه المناطق حقوقهم التي خسروها في ظل الحكومة السابقة، وأن يعود أبناء هذه المناطق إلى حضن الدولة العراقية التي تضمن حقوق جميع أبنائها بكل أطيافهم الدينية والإثنية والعرقية، ليكونوا جميعاً شركاء في محاربة خطر داعش والإرهاب الذي يهدد بلادهم. 

حراكٌ سياسي حثيثٌ ومهم أفضى إلى توافق على تنحية نوري المالكي عن رئاسة الحكومة العراقية، وتسمية حيدر العبادي رئيساً جديداً لها، وبعد مناقشات مجدية، أُعلنت الحكومة الجديدة التي حظيت بثقة البرلمان العراقي، وترحيبِ الدول المعنية بالشأن العراقي، لافت للنظر في هذه الحكومة أنها أعادت التوازن بشكل ملحوظ إلى تشكيلتها، ومنحت للسنَّة الدور والحضور الذي يكرس شراكتهم الحقيقية في قيادة هذا البلد، ما منحها في المقابل أسباب التشكيل.  

ما جرى في العراق، في العقد الماضي، وبعد تشكيل حكومته الجديدة، يجعلنا نثق، إلى حد كبير، في أن العراق عندما يكون متوافقاً داخلياً، وتتوزع مسؤوليات الحكم في هذا البلد على مكوناته بشكل متوازن، ويعكس التمثيل الصحيح والمناسب لكلٍّ منها، عندها ستكون علاقاته جيدة مع عواصم جيرانه كلها، وتأثيره إيجابي في باقي دول المنطقة، لما يحمل من ثقل سياسي واقتصادي وعسكري وديني وعرقي وإثني وتاريخي، حينها في وسع العراق أن يكون بيضة القبان في المنطقة، وأن يكون صمام الأمان والاستقرار، وحينها يمكن لبغداد أن تلعب الدور الكبير والمؤثر المطلوب منها في المنطقة والعالم.

avata
avata
طارق عجيب (سورية)
طارق عجيب (سورية)