العجز عن الاستقلال

العجز عن الاستقلال

22 ابريل 2014

حسني الزعيم قام بانقلاب في سورية بعد الاستقلال 1949

+ الخط -
بعد مرور أكثر من سبعة عقود على بدء استقلال البلاد العربيّة، ونشوء الدول (القُطريّة)، نحتاج إلى أن نقف ونتساءل: هل ما حدث استقلال عربيّ حقًّا؟ وهل كانت (الدولة القُطريّة) الحصيلة الحقيقيّة لما حلم به العرب، في سعيهم إلى الحريّة؟ ولماذا تحوّل الواقع القُطريّ سريعًا إلى كابوس مرعبٍ، أفضى إلى هذه الانتفاضات الّتي أسميناها (ثورات الربيع العربيّ)؟
ولدت، في أواخر الحقبة الكولونياليّة، ثوراتٌ حقيقيّةٌ، لا مجال للشكّ فيها، لكنّها كانت غير مكتملة. كان ثمّة استحقاق تاريخيّ فعليّ، دفع بالذات العربيّة إلى أن تثور، لأنّها مصابة (بجرحٍ في الهويّة) ـ بتعبير محمود درويش ـ ومنهكة تمامًا تحت وطأة الهزائم والاحتلالات الأجنبيّة الثقيلة. لكنّ النظام الأوروبيّ الكولونياليّ، في الوقت نفسه، كان هو الآخر، أيضًا، يترنّح إثر خروجه مثخنًا من الحرب العالميّة الثانية، وفاقدًا القدرة على الاستمرار في الاحتلال. هكذا، إذن، ذهبنا نحن العرب إلى (شبه استقلال) عن طريق قيامنا بـ(شبه ثورة)، لأنّ الثورة لدينا لم تتولّد عن رغبتنا، وحدنا، في التخلّص من الاحتلال، بل إنّ أعداءنا، أيضًا، كانت لديهم الرغبة ذاتها في التخلّص من ذلك الاحتلال الّذي تحوّل إلى عبءٍ يثقل كاهلهم، مثلما يثقل كاهلنا.
في 28 فبراير/ شباط 1922 أعلن استقلال مصر، وفي 8 يناير/ كانون الثاني 1926 أعلن استقلال السعوديّة، وفي 3 أكتوبر/ تشرين أوّل 1932 أعلن استقلال العراق. والحقيقة أنّ بريطانيا استمرّت في الهيمنة على مستعمراتها القديمة تلك، لكن، من دون الحاجة إلى جيش.
أدركت بريطانيا وفرنسا، واللّتان كانتا تحتلاّن نصف العالم، أنّ إرسال جيشيهما إلى المستعمرات أدّى إلى انكشافهما، اقتصاديًّا وعسكريًّا، أمام ألمانيا المتربّصة الّتي يتنامى فيها المدّ النازيّ، بشكل مقلق؛ وكان ذلك يدفع بهما إلى إخلاء المستعمرات لا التخلّي عنها، وإلى منحها (شبه استقلال) ينطوي على (شبه احتلال).
في عام 1921، أسفرت ثورة عبد الكريم الخطّابيّ عن إنشاء (جمهوريّة) مستقلّة في الريف المغربيّ المحرّر، وفي 1926 حشدت فرنسا وإسبانيا نصف مليون جنديّ لإسقاط تلك الجمهوريّة الّتي لم يكن مسموحًا لها أن تكون أمثولة للاستقلال الحقيقيّ، ولم تتكرّر تلك التجربة الفريدة، لأنّ بريطانيا سبقت فرنسا إلى مغادرة المسرح الكولونيالي، تاركة وراءها دولاً مشوّهة، وعاجزة عن الاستقلال.
ومع ذلك، فإنّ المملكتين الوليدتين، في مصر والعراق، بدأتا سريعًا بالنموّ، ومراكمة الخبرات، والتأسيس لحياة مدنيّة، حتّى إنّ القاهرة اختيرت في العام 1925، أي بعد ثلاثة أعوام من الاستقلال، أجمل مدينة في العالم، وتكرّر ذلك في 1940، وكانت الإسكندريّة المنافسة الوحيدة لها. كان ذلك يعني أنّ تلك الدول آخذة في التخلّص من تبعيّتها، والوصول إلى استقلالها الحقيقيّ الّذي تدرك أوروبا مدى خطورته عليها.

لم يكن مسموحًا، إذن، لتلك الدول التابعة بأن تنمو لكي لا تستقلّ. لذا، كان ينبغي ابتكار آليّات للهدم الذاتي، تتكفّل بإبقائها دولاً متخلّفةً ورخوة ومتداعية، فبعد ثلاث سنوات فقط من حصول سوريّة على (شبه استقلالها)، قام حسني الزعيم، في 1949، بانقلابه العسكريّ الّذي حرّكته المخابرات الأميركيّة والفرنسيّة، وتوالت بعده سلسلة الانقلابات الّتي سلبت الدولة السوريّة استقرارها ونموّها وعافيتها ومدنيّتها. ثمّ بدأت الانقلابات العسكريّة تتنقّل، بالتدريج، من بلد إلى آخر، حتّى لم يعد ثمّة أفق لأيّ حياة مدنيّة في ظلّ الدولة القُطريّة العربيّة.
حين ولدت إسرائيل، إذن، في عام 1948، لم يكن ثمّة عرب تقريبًا: لم يكن ثمّة سوى مصر، والسعوديّة، والعراق، ولبنان، وسوريّة، والأردنّ. ولم يكن في وسع جيوشها، المولودة حديثًا من الرحم الكولونياليّة، أن تفعل شيئًا للدفاع عن فلسطين، أو لرعاية النموّ، أو لتوفير الاستقرار اللازم للحياة المدنيّة فيها، بل إنّها تحوّلت، بدلاً من ذلك، إلى أدوات شرسة للهدم والقمع والتخريب.
إنّ مشهد الخراب العربي الّذي ينتشر في كلّ حدب وصوب ليس ارتجالاً فوضويًّا، إذن، كما قد يبدو أحيانًا؛ وليس فعلاً موجّهًا ضدّ أَنظمة تدّعي الممانعة والجيوش الّتي تدّعي الوطنيّة. إنّه مشهد يتكرّر، لأسباب بنيويّة، من أجل (إعاقة النموّ) الّتي نبّه إليها سمير أمين في كثيرٍ من كتاباته المهمّة.
لقد تحوّلت القاهرة، في ظلّ حكم أنور السادات وحسني مبارك، إلى واحدة من أقذر مدن العالم، وذلك أحد أخطر أشكال الهدم الذاتي الّذي مارسه النظام العسكري الانقلابي في عواصم العرب المختلفة، وحيثما كان ثمّة بناء، أو محاولة للبناء ـ كما حدث في مصر عبد الناصر وعراق صدّام حسين ـ كانت أجهزة المخابرات الغربيّة تتحرّك لتنشيط آليّات الهدم، بالانقلابات أو بالاضطرابات أو بالحصار أو بالفوضى أو بالتدخّل العسكريّ المباشر، كما حدث في العدوان الثلاثيّ على مصر سنة 1956، والعدوان الثلاثينيّ على العراق سنة2003 .
ليس الهدف من حالة الفوضى الراهنة، إذن، إسقاط الأنظمة والدول، بل تثبيتها في حالةٍ رخويّةٍ، تحول دون وصولها إلى الاستقلال الحقيقيّ، وذلك ما ساهمت الأنظمة العسكريّة، ذاتها، في إنجازه، نيابة عن دول الاستعمار.        

      
  
3EB1E10F-A857-4544-8A47-AF6FE85B9960
زهير أبو شايب

شاعر وكاتب من فلسطين. مواليد 1958، له من المجموعات الشعرية "دفتر الأحوال والمقامات" و"ظل الليل"، و"سيرة العشب"، وغيرها. ومن الكتب "ثمرة الجوز القاسية". فاز بجائزة مؤسسة محمود درويش.