العتبة الخضراء

العتبة الخضراء

06 مايو 2020

محمد مشالي.. طبيب الغلابة في عيادة متواضعة

+ الخط -
قالت أمِّي قديمًا: إن البيوت أعتاب.. والمقصود أن هناك أماكن تجلب البركة والخير والرزق، وأماكن على العكس من ذلك تمامًا، ولأن أمِّي، رحمها الله، تعرف كلَّ شيء، فقد تأكّدتُ من كلامها، من خلال تعاملي مع أصحاب محلاتٍ قديمة، لبيع المجوهرات مثلا، فلاحظت أن أصحابها يتمسَّكون بأماكنهم، على الرغم من قِدَم المحلّات، ولا يغيِّرون ديكوراتها، وقد صار لونها باهتًا؛ لأنهم يعتقدون أن البركة تأتي من هذه المحلات، بل إن أحدهم لا يزال يستخدم الميزان ذا المثقالين القديم في وزن الذهب، ولا يستخدم الميزان الرَّقمي، ويؤكِّد دومًا أن هذا الميزان هو "وشّ السعد" بالنسبة له. 
وعلى ذكر الطبيب المصري، محمد عبد الغفار مشالي، الملقَّب بطبيب الغلابة، والذي كثر الحديث عنه هذه الأيام، وزيارة وسائل الإعلام عيادته المتواضعة، أعرف أطبّاء يتمسَّكون بعياداتهم القديمة، ولا يغيِّرون الأثاث، ولا يوسِّعون المكان، على الرغم من ازدحام العيادة بالمرضى، والسبب أن هذا المكان بالذات هو العتبة الخضراء، بالنسبة لهم، والعتبة الخضراء يقصد بها المكان الذي يتوافد إليه الناس، وتتزاحم عنده الأقدام؛ فيأتي الخير والرزق.
أعرف أطبَّاء لا يحرصون على زخرفة عياداتهم وهندستها، ولكن المرضى يأتون إليهم من الأماكن البعيدة، ويؤكِّد هؤلاء أنهم يشعرون بتحسُّنٍ بمجرَّد دخول المكان، على الرغم من بساطة العلاج ووسائله، بل إن الأجهزة التي يستخدمها ذلك الطبيب قد عفا عليها الزمن، ولكن يصرُّ على استخدامها، مثل طبيب الأسنان الذي يطلب منك أن تنهض عن كرسيِّ الكشف، ويشير إلى صنبورٍ قديمٍ في زاويةٍ من الغرفة، ويطلب منك أن تملأ كأساً على حافّته بالماء، وتمضمض فمك، وتلقي ما فيه في الحوض، ثم تعود أدراجك، وأنت تفعل ذلك بكلِّ رضا، في حين أن كلَّ عيادات الأسنان الحديثة توفِّر لك هذه الخدمة، وأنت جالسٌ إلى مكانك، فتضغط على زرٍّ أمامك؛ فينسكب الماء في كوبٍ شفَّاف، ولكنك تذهب إلى الطبيب الذي يطلب منك أن تقوم عن الكرسي، وتعود.
وأعرف طبيب أطفالٍ كان يصرُّ على علاج مرضاه في بيت عائلته القديم؛ لأنه يرى أنه العتبة الخضراء، بالنسبة له، وبأنه المكان الذي عرفه المرضى، ربع قرن، ولا يريد أن يفقد زبائنه، على الرغم من انخفاض أجرة الكشف لديه، وفي الوقت نفسه، لا يريد أن يفقد مرضاه ذلك الشعور بالارتياح؛ بمجرد دخول البيت المنخفض الباب، عن مستوى الشارع، والذي تهشَّمت أرضيَّتُه، وتآكلت حوافُّ بلاطه، حتى رحل هذا الطبيب بمرض عضال، ولكن كلما مررتُ من أمامه، مع أولادي الذين أصبحوا في سنِّ الشباب، أشاروا إلى البيت، وترحَّموا على الطبيب، وتذكَّروا مداعباته لهم، وخفَّة يده، حين كان يضطرّ لوخز أحدهم بحقنة، لخفض حرارته.
العتبة الخضراء، أو المكان الذي يرتبط بإقبال الناس، وحبِّهم، وتعوُّدهم، هو أحد الأسباب التي دعت الطبيب المصري الطاعن في السنّ، محمد المشالي، أن يرفض عروضًا كثيرة، بأن ينتقل إلى عيادة فخمة ومجهَّزة، ولكن أحدًا لم يكتشف السرَّ الذي يراه بعضهم تأخُّرًا في التقنيات العلاجية، وهو ليس كذلك على الإطلاق، ولكن السرَّ أنك تشعر بأنك تصبح أفضل حالًا بين يدي هذا الطبيب المتواضع، في كلِّ شيء، بدءًا من أجرة كشفه، ومرورًا بمظهر عيادته، وانتهاءً بخفَّة يده، وسرعة شفائك، بعد مغادرتك العيادة، أو أثناء وجودك فيها، فلماذا لا تذهب إليه؟
أدلى بعضهم بملاحظاتٍ عن الفوضى التي نراها في عيادة هذا الطبيب، وربما أشار كثيرون إلى أن هذا الطبيب لا يحرص على النظافة والتعقيم، ولكن للأسف، لم يتذكَّر هؤلاء كم من الأخطاء الطبِّية، وحوادث الموت التي سُجِّلت لمرضى، في أفخم العيادات، وأغلى المستشفيات الخاصة التي تحوَّلت إلى مشاريع استثمارية.
ولذلك، وباختصار، يجب أن نترك الطبيب المصري الأصيل في حاله، يجب أن ندعه يعمل في عتبته الخضراء، من دون أن يسجِّل أحدُهم موقفًا على حسابه، فهناك ألفة ما بينه وبين المكان، وبين فوضاه، وأكاد أجزم أنه سوف يخطئ في التشخيص، وفي وصف العلاج، لو انتقل إلى عيادة فاخرة مجهَّزة بأحدث الأثاث.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.