العار والخيانة

العار والخيانة

10 يونيو 2020

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -
يصرُّ القدر أن يطيل عمر هذا الرجل، لكي أراه دائما، وأتذكّر جريمته، وأعيش، في لقطة "فلاش باك" سريعة، كلَّ الذكريات المؤلمة، فبمجرد أن أصبح في عمق المدينة، يشقّ وجهه الزحام، وألتقيه، بل إنني في مرّاتٍ كثيرة غالبا ما أرتطم به، فتمسّ كتفه التي تبرز عظامها جانب ذراعي، فأشعر، وكأن حيّةً قد لدغتني، وواصلت سعيها؛ فأجفل، وأتحسّس الموضع، فيما فوق الملابس وأتوقّف قليلا؛ لأعبَّ من الهواء حولي، وأمشي.
لي مع مدينتي الجنوبية حكاياتٌ وذكريات، ولها خصوصيةٌ بالبطولات والتضحيات، على مرّ التاريخ. وقد اعترف الصحافي الإسرائيلي، زئيف شيف، في كتابه "حرب الأيام الستة" أن الجيش الإسرائيلي قد لاقى مقاومةً عنيفة، من رجال الصاعقة، في مدينة خان يونس، وقد قُتل وقتها قائد فرقة، و37 ما بين ضابط وجندي، وقام رجال الصاعقة بإعطاب عشرات الدبابات والعربات وتدميرها، قبل أن يتم احتلال المدينة، وبسط النفوذ الإسرائيلي عليها.
في هذه المدينة، ارتكب الاحتلال مذبحة في العام 1956، راح فيها بضع مئات من الرجال الذين قُتلوا بدم بارد، ومنهم عمّ لأمي، والذي قتل أمام ناظري طفلِه، في حظيرة الأغنام، ومن دون أن يرتكب جريمة، سوى أنّ مَن قتله أراد أن يفرض هيمنته، ويؤكّد وحشيَّته. ويبدو أن المدينة قرّرت أن تثأر لشهداء هذه المذبحة؛ فكانت المقاومة عنيفة، إبَّان حرب حزيران في العام 1967، وهزيمة الجيوش العربية. وفي ذلك الوقت، كان ذلك الرجل الذي يصرُّ القدر أن يضعه في طريقي، كلما أصبحت في عمق المدينة، وبحاجةٍ لاستنشاق عبقها، وإنعاش ذكرياتي معها، كان وقتها شابًّا صغيرًا، بالكاد يظهر شاربُه، تحت أنفه، مثل جيشٍ صغير من النمل، ولكنه كان يرتعد خوفًا، وجحافل الجيش على أبواب المدينة؛ فهرع إلى جدَّتي، وكانت تمتاز ببدانتها المحبَّبة، والتي أطلقتُ عليها "كرتي الأرضية"، فقد تخيّلتُ أنّ العالم كلَّه هو جدَّتي، وأنّ جدّتي تعرف كلَّ شيء عن العالم، من دون أن تقوم من مكانها، ولذلك هرع إليها، هذا الفتى وقتها، وهو يصيح مثل الثكالى، راجيًا جدّتي أن تخفيه خلفها، بجسده الدقيق؛ كي لا يراه الجنود، وهم يقتحمون، بأسلحة الموت، البيوت الآمنة.
فرَّ معظم السكَّان إلى بساتين الخضار والفاكهة التي تقع بمحاذاة البحر، ويُطلق عليها اسم "المواصي"، وظلّ قلَّةٌ منهم في بيوتهم، خوفًا من تكرار مذبحة العام 1956، ولكن احتلال المدينة قد تمّ، وعاد السكَّان الفارّون، تحت جنح الليل، إلى بيوتهم مستسلمين، ولكنّ أحدًا لم ينسَ ذلك الفتى المذعور المرتعد الفرائص، والذي كادت عظامه تتناثر على الأرض؛ من شدّة الخوف؛ لأنه كان يتميَّز بنحافةٍ ملحوظة، وما زال حتى بعد تقدُّمه في العمر، وانحناء ظهره، وشيب رأسه الذي يصرُّ أن يعصبه بعصابةٍ قذرة، ما زلتُ أذكر رائحتها المختلطة بتبغٍ عربي، حتى اليوم، وكأنها نسيت أن تغادر أنفي.
بعد هذه الحادثة، ظلّ هذا الفتى يصرخ، أيَّاما متتالية، موجوعًا من هزيمة الجيوش العربية، كما كان يقول، ولا يتوقّف عن ترديد كلمات، على غرار "العار والخيانة"، ولكن أحدًا، في المقابل، لم يتوقّف عن تذكيره بأنه قد حاول أن يحتمي بامرأة، وبأنه لم ينضمّ لصفوف رجال المقاومة "الفدائيين"، فكان يلوذ بالصمت، ويختفي من المكان.
هذا الرجل، وبعد أن أصبحنا في نهاية السبعينيَّات، ولا أحد يعرف أيَّ عملٍ يمارسه، ولكنّه يختفي، ويظهر، ارتكب جريمة، فقد تناقل أهل الحيّ خبر قتله شقيقته، بحجَّة غسل العار، وبعد ذلك اختفى، وكنتُ وقتها، في سنِّ الطفولة، حين عرفتُ أنه أصبح قاتلا، وأنّ الصبيَّة الصغيرة التي كانت تلاعب بنات الحيّ الصغيرات قد قُتلت لغسل العار، وبدافع الشرف.
للمرّة الأولى، طرقت أذني هذه المصطلحات، وظلّ اسم الصبية يتردّد في أعماقي، ولم يتوقّف القدر عن قذف هذا القاتل الكريه، في طريقي .. هكذا أرى عينيه الغائرتين، وهو لا يكاد يرى بهما، وقد تجرّأتُ ذات مرّة، فاستوقفتُه وذكّرتُه بنفسي؛ فهزّ رأسه، بأنه يذكرني، وناداني باسمها ...
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.