الطبقة المتوسطة والتعليم

الطبقة المتوسطة والتعليم

09 يوليو 2015
اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم العربي (أرشيف/الأناضول)
+ الخط -
يقال كثيراً في الوطن العربي، على ألسنة الكتّاب والمفكرين، إن الطبقة المتوسطة قد تآكلت، وإن هذا أحد الأسباب الرئيسية لما يشهده الوطن العربي من توترات وقلاقل وانقسام.
والواقع أن التعليم ساهم، منذ منتصف القرن الماضي، في تقليل الجمود الاجتماعي، وخلق دينامية إيجابية، مكّنت المتعلمين القادمين من الأرياف والأماكن النائية عن العواصم من أن يخترقوا الصفوف والطبقات، ليجلسوا في المقدمة، وأن يحتلوا المراكز المرموقة، ويحققوا لأنفسهم كسباً مالياً أهّلهم ليكونوا من الطبقة الوسطى على الأقل، أو من الطبقة العليا في بعض الحالات.
وقد توسعت الطبقة الوسطى بالتدريج، وصار للعلم والتعليم مكانة بين الناس. وأصبح المعلم، بحد ذاته، وكيلاً اجتماعياً ينقل للتلاميذ وأهاليهم في الريف المعرفة والرأي. وقد كان هنالك تصميم على أن يبقى التعليم التوأم السيامي للتربية. فالتعليم، بحد ذاته، لم يعتبر كافياً لتأهيل الشخص، ما لم يقترن بالالتزام الخلقي والاجتماعي. وهكذا خرّجت المدارس أعداداً كبيرة من الذين يحترمون علمهم، ويعتزون بمكانتهم، ويرغبون في أن يؤدوا أدوارهم، باقتدار وأمانة، للمجتمع الذي أنصفهم، وبادلهم احتراماً باحترام، وتقديراً مقابل الإخلاص والتفاني في الخدمة.
وهكذا صار المتعلمون يحتلون مساحة أوسع من الطبقة الوسطى. وصار المعلمون والموظفون وضباط الجيش والبوليس ومتوسطو التجار، والصناعيون والحرفيون المؤهلون، المحترمون منهم، وملاك الأراضي الزراعية بمساحة صغيرة، هم عماد الطبقة المتوسطة، وهم حماتها وحماة المجتمع كذلك.
ولكن، لمّا توسع التعليم، وأهمل إعداد المعلم، وكثرت أعداد الطلاب، وصار الكم في التعليم على حساب النوع والكيف، حصلت في التعليم ازدواجية كبيرة، فالأقلية من القادرين والميسورين يذهبون إلى مدارس خاصة، ويتعلمون لغات أجنبية، ويتقنون التعامل مع وسائل العصر الحديثة، وتكونت لديهم ثقافة عالمية الأبعاد، ومظاهر سلوكية واستهلاكية بعيدة عن الثقافة المحلية. أما الباقون فتعلموا في مدارس حكومية، مكتظة، وبالكاد تقدّم التعليم المطلوب، ولا تُكسب مهارات التواصل والتكنولوجيا للدارسين فيها.
وهكذا، حصل خريجو المدارس المتميزة على الوظائف ذات المرتبات العالية، في القطاعين العام والخاص والأجنبي، وبقي الآخرون من خريجي المدارس العامة يتزاحمون على الوظائف الأدنى، والتي لا يحتاج تنفيذ واجباتها إلى معرفة واسعة. وهكذا، صار خريج المدارس الأجنبية والخاصة فائزاً بالوظائف والمركز، بينما عمت البطالة والأجور المتدنية بين الأطراف الأخرى.

ونتيجة منطقية، وبسبب إهمال التكوين والتأهيل المهني، صارت الجامعات المحلية في معظم الدول العربية تخرج عاطلين عن العمل، لا تؤهلهم مواردهم، ولا الفرص المتاحة أمامهم، ليكونوا جزءاً من الطبقة المتوسطة، فأصبحوا بالكاد يقدرون على مواجهة الحاجات الأساسية، والضغوط المتزايدة عليهم لتوسيع استهلاكهم، في مجالات الاتصال والنقل، خصوصاً بعدما صار الهاتف والسيارة الخاصة من ضرورات الحياة المكلفة.
أما الذين تخرجوا من الجامعات الأجنبية، وتمتعوا بمهارات اجتماعية وتواصلية عالية، فقد حصلوا على الوظائف والمراكز العليا، أو أصبحوا رجال أعمال، أو مسؤولين كباراً في الدوائر الحكومية، مما جعلهم يتصرفون ويسلكون سلوك الأغنياء، وليس سلوك الطبقة المتوسطة.
ولذلك، ساهم التعليم وازدواجيته ليس فقط في تقليص مساحة الطبقة المتوسطة حامية المجتمع، وصانعة إنتاجه وثقافته، وإنما في تغيير تكوين هذه الطبقة التي انحدرت ثقافة أصحابها وعلمهم وسلوكهم الاجتماعي، فهم الآن من أصحاب الياقات الزرقاء، والذين يركزون على جني المال، ويقل اهتمامهم الاجتماعي عن المكونين السابقين الذين شكّلوا غالبية هذه الطبقة.
ومن هنا، دخل الوطن العربي في حالة هشاشة، وكبر دور الحكومات الاجتماعي، وارتفعت داخل الاقتصادات العربية نسبة النشاط غير الرسمي البعيد عن أنظار الحكومات وتخطيطها وضوابطها. ومع كبر الهم العام، وانتشار الفساد، وسرعة التحولات الناجمة عن التكنولوجيا الحديثة والعولمة، اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وصارت الحكومة مشغولة بتأمين نفقاتها وبحل مشكلاتها كمؤسسة، أكثر من تركيزها واهتمامها بالأدوار التي قامت الحكومات أصلاً لكي تؤديها.
ويكثر الحديث عن إصلاح التعليم، بل صار، في معظم الوثائق الاستراتيجية التخطيطية في الوطن العربي، حجر الرّحى، والعمود الذي تقوم عليه خيمة الإصلاح. ولكن معظم التفكير لا ينصب حالياً على إعادة التوازن إلى المجتمع والتماسك بين صفوفه عبر العملية التعليمية والتربوية، وإنما كي يلبي حاجات سوق العمل. وهنالك من يأخذ الموضوع بآلية بحتة، بعيدة عن التفكير الشمولي في دور التعليم وأهميته في النمو المستدام، والعدالة في التوزيع وإعادة تكوين الطبقة المتوسطة وتكوينها.
سينعقد هذا الصيف مؤتمر تربوي وطني في عمّان، وسيكون له صدى إعلامي كبير. والمرجو أن يشكل بادرة حقيقية لإصلاح مجتمعي يقوده التعليم، ومناهجه، وغاياته، ومكون التربية فيه.
أما إذا بقي الحديث محصوراً في الامتحانات، وفي توزيع الطلاب بين الجامعات ومعاهد التدريب المهني، فإننا لن ننجح في ردم الهوة بين طبقات المجتمع، ولا في مكافحة التطرف والغلوّ. ولنأمل خيراً بإذن الله.

المساهمون