الضامن التركي أبعد من المراقبة في سورية

الضامن التركي أبعد من المراقبة في سورية

24 أكتوبر 2019
+ الخط -
شنّت قوات النظام السوري، قبل أسابيع، مدعومة بالحلفاء الروس، هجوماً على ريف حماة الشمالي الذي نجحت في السيطرة عليه، وأكملت إلى ريف إدلب الجنوبي، لتضع يدها على بعض تلك القرى، أبرزها خان شيخون، الإستراتيجية، الشاهد الأخير على مجزرة ضربها بالسلاح الكيميائي (4 إبريل/ نيسان 2017) التي اتهم بها نظام الأسد. وطوال فترة القصف الماضية بالطيران والمدفعية وتمشيط المناطق، اكتفت نقاط المراقبة التركية، قرب خطوط التماس هناك، بالمراقبة والتنسيق مع الروس، وزجّت فصائل هيئة تحرير الشام في محرقة المعارك، في وقت كانت تركيا سياسياً تصرّح بأن عودة اللاجئين السوريين من بلادها مرتبطةٌ بتوسيع خريطة سيطرتها شمالاً على حساب المناطق التي تسيطر عليها وحدات الحماية الكردية وقوات سورية الديمقراطية (قسد) على شريط حدودها مع سورية. 
وعلى الرغم من أن القوات الأميركية كانت تدّعي إرسال تعزيزات عسكرية محاولة منع العملية العسكرية شرق الفرات آنذاك، والتي هدّد بها الرئيس التركي أردوغان، منطلقاً من اتفاق أضنة عام 1998 الذي سمح نظام الأسد بموجبه بتوغل القوات التركية في سورية من حدودها شمالاً مسافة خمسة كيلومترات لمحاربة الإرهاب، والمقصود هنا مليشيات حزب العمال الكردستاني، إلا أن المعركة بدأت في التاسع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بتوغلٍ قد تجاوز المسافة تلك. في الوقت عينه، هدأت جبهة ريف إدلب الجنوبي بتوجيه من الروس، وبات الأكراد ومناطقهم الضحية الكبيرة التي وقعت، وكثرت السكاكين حولها، لتستنجد بالروس والنظام، وتخسر مزيدا من التعاطف الشعبي. في حين أصيب مشهد الشمال السوري بصدمة التخلّي الأميركي عن دعم الأكراد عسكرياً، ثم ظهرت بوادر الرضى الروسي عن العملية العسكرية التي تقودها تركيا 
بمشاركة فصائل "الجيش الوطني السوري"، والذي كان جنوده يرفعون العلم التركي إلى جانب أعلامهم، أسوة بجيش النظام الرافع أعلام روسيا وإيران ومليشياته، كما جاءت تصريحات الكرملين أخيرا بوجوب "ألا تضرّ العملية العسكرية التركية بالعملية السياسية في سورية".
وبالعودة إلى بدايات يوليو/ تموز الماضي، نتذكّر تصريحاً لوزارة الدفاع التركية باستلام أولى دفعات صواريخ "إس 400" روسية الصنع التي تعتبر تذكرة قبول لمخطط أنقرة بتوسيع سيطرتها شمال سورية بعد "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، فالحياة في تلك المناطق تحمل شكلاً مدنيّاً تاماً تحت الوصاية والحماية التركية من مؤسسات وخدمات وإمداد مياه وكهرباء واتصالات وقيادة أمنية وعسكرية وإشراف عام على التعليم!
هذا التطبيع التركي لا يعني موسكو، ولم يكن لديها أي شك أن العملية مقبلة، وكان ثمنها قضم بعض المناطق من ريف حماة الشمالي والتقدّم جنوب إدلب. والذريعة الجاهزة هي قتال أبناء جبهة النصرة، عماد قوات هيئة تحرير الشام، فيما تتخبّط إيران بعد ابتعاد الولايات المتحدة عن شمال سورية، ولم يعد لديها "بطولات" مزعومة تقارع عليها حلفاء إسرائيل بالتوسّع في مواقع سورية، بغض النظر عن شراكتها مع الروس، فهؤلاء، إلى جانب الأتراك، حسموا الأمر بالاتفاق لتوزيع مناطق لهذا "الحليف" في مقابل مناطق لذاك "الضامن"، والغاية هي تقسيم التراب السوري، وإضعافه أمام عيون العالم، بسبب عجز المعارضة والنظام عن التأثير في المشهد السياسي والعسكري أو قيادته.
ومنذ غابت الولايات المتحدة عن اللقاءات بين زعماء تركيا وروسيا وإيران، بشأن اتفاقيات أستانة الكثيرة مثلاً، ولقاءات جنيف بين المعارضة والنظام، وتحرّكات عديدة معنية بصنع القرار الدولي على الأرض، وهي تدعم سياسياً وتنتشر "بخجل" عسكرياً في قواعد لا ثقل لها بين الأكراد، البعيدين أصلاً عن أشكال التفاهم السياسي مع اللاعبين المسيطرين في الميدان، كان الهدف، على الأرجح، من تجربة الإدارة الذاتية هو السيطرة من دون وعي سياسي والتحالف ضد فزّاعة "داعش"، إلا أن تلك التجربة تُظهر جلياً أن الانتحار هو مصيرها المحتوم، إذ لم تكن الولايات المتحدة في موقع الجديّة للدفاع عن وجودها في سورية، فهي تكتفي اليوم بموطئ قدم مهم استراتيجياً في جنوب سورية، يتمثّل في السيطرة على مثلث واسع من نقطة التقاء الحدود السورية والأردنية والعراقية معاً، إضافة إلى الأرباح التي جنتها من النفط طوال فترة مكوثها في الشمال السوري. على الرغم من ذلك، تدّعي الإدارة الأميركية أنها أعلنت عن "عقوباتٍ سوف تدمر الاقتصاد التركي"، حسب وصف الرئيس الأميركي ترامب (...) كتهديد إعلامي، واجهته تركيا بالقول: "لا يمكن لأحد أن يوقفنا بعد أن بدأت "نبع السلام" رغم التهديدات والعقوبات الاقتصادية" حسب وصف الرئيس التركي أردوغان، أخيرا.
ولفهم كيف تحولت تركيا من موقع المراقب في الأحداث الأخيرة على الخارطة السورية إلى 
محرّك الغزو الجديد، تكمن الإجابة في الاجتماع الأخير، ربما، لرؤساء تركيا وروسيا وإيران في منتصف سبتمبر/ أيلول الفائت في أنقرة، إذ قالت طهران إن هدف الاجتماع هو نقاش إصلاح الدستور والانتخابات لعام 2021 في سورية وقتال "العناصر الإرهابية" في إدلب! أما تركيا فقد أكدت على أولوية عودة اللاجئين. ويبدو أن الثقل التمثيلي الذي كوّن اللجنة الدستورية كان لجهة روسيا وإيران وما يتوافق معهما في مقابل إتاحة الطريق لتركيا سياسياً ودولياً لتنفيذ رؤيتها بعودة النازحين، فبدأت المعركة شمال سورية، والتي تنوي قتال قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في حين ليس لدى أنقرة أي مشكلة مع سيطرة النظام على مواقع الأكراد، خصوصاً بعد تصريحات وزارة الدفاع الروسية بوصول قوات الأسد إلى القاعدة العسكرية في منبج التي أخلتها القوات الأميركية، وذلك ما اعتبره أردوغان ليس تطوّراً "سلبياً جداً" طالما أنّ السيطرة على هذه المدينة لم تعد بأيدي "قسد"، والتي تصنفها أنقرة على قائمة الإرهاب. في حين كانت إيران تجامل تركيا برفض مزعوم على لسان وزارة خارجيتها التي قالت إن العملية العسكرية التركية لن تسهم في إزالة المخاوف الأمنية التركية، بل ستؤدي إلى أضرار مادية وإنسانية واسعة، مؤكدة معارضتها العملية العسكرية التركية داخل الأراضي السورية، على حد زعمها.
في المحصلة، سوف يضع هذا الأخذ والرد السياسي في تبادل التوسع التركي الروسي في سورية المتخاصمين في كفّة واحدة للوصول إلى تسويةٍ ما، بعد دمار لا حدود له على مذبح النديّة في الهيمنة على السلطة، ولا أحد من السوريين يستطيع أن يحرّك يافطة لحاجز عسكري من دون إذن الرعاة الدوليين، ثم يأتي من يؤكد أن "الحل" في سورية سياسي. ولكن يمكن القول إن هذا الحل لم يعد سوريّاً، بل مجرّد تهويم للتضحية بمزيد من الوقت لإطالة أمد الحرب ورسم حدود الاحتلالات الجديدة بتفويضٍ مشترك، كان أكثره انقساماً في المعارضة التي جاءت، أصلاً، من ثقافة النظام السوري ووحشيته وذهنيته.