الصين وأميركا وإسرائيل .. مثلث التوتر

الصين وأميركا وإسرائيل .. مثلث التوتر

24 مايو 2020
+ الخط -
مع وفاة السفير الصيني لدى إسرائيل، دو وي، يوم الأحد الماضي (17 مايو/ أيار الحالي)، يعود التنافس الأميركي الصيني إلى واجهة الأحداث، وهو الذي أصبحت إسرائيل إحدى ساحاته المتقدمة. جاء تعيين دو وي سفيراً في لحظةٍ حاسمةٍ من صراع القوة الناعمة بين الولايات المتحدة والصين، بعد تفشّي فيروس كورونا الجديد، وتحميل واشنطن بكين مسؤولية انتشاره عالمياً. وجد وي نفسه وسط ديناميكية متوترة بشكل متزايد، حرص معها، منذ وصوله إلى إسرائيل، في فبراير/ شباط الماضي، على تأكيد أن استثمارات بلاده ليس لها، كما تروّج واشنطن، أجندة جيوسياسية، ولا تشكل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي. 
منذ عام 1948 تعذّرت قنوات الاتصال بين بكين وتل أبيب. امتنعت الصين عن التصويت على قرار تقسيم فلسطيني في عام 1947، وعبّرت علناً عن رفضها احتلال إسرائيل أراضي الفلسطينيين واستيطانها. وبعد إقامة الصين والولايات المتحدة الأميركية علاقات ديبلوماسية رسمية عام 1979، ترافقت مع انسحاب أميركي من تايوان وقطع علاقتها الديبلوماسية مع الجزيرة، نسجت بكين مع تل أبيب علاقات عسكرية سرية، وكان ينبغي الانتظار حتى 1992 لمباشرة علاقات ديبلوماسية بين البلدين، توالت بعدها الزيارات الرسمية المتبادلة لوفود وشخصيات سياسية وتجارية، وشملت العلاقات بينهما مجالاتٍ ثقافية وسياحية وأكاديمية وبحثية. وفي 2013، أطلقت الصين مبادرة "الحزام والطريق" بقيمة تريليون دولار، زادت من خلالها الصين بشكل كبير استثماراتها العالمية، خصوصاً في البنية التحتية، وكانت إسرائيل وجهة أساسية للمبادرة، وراهنت الصين على أن قدرتها على تلبية معايير البنية التحتية العالية لإسرائيل ستكون نقطة انطلاق للوصول إلى الأسواق الأوروبية. واليوم أصبحت الصين ثالث أكبر شريك تجاري لإسرائيل.
تطورت العلاقات بين الجانبين، من علاقات سرّية غير رسمية، إلى شراكة استراتيجية وثيقة، في 
وقتٍ كانت فيه مبيعات الأسلحة والمساعدات الأمنية أداة رئيسية لتقرير مصالح السياسة الخارجية الإسرائيلية، فزوّدت إسرائيل الصين بالمساعدة، والخبرة العسكرية، والتكنولوجيا، وجلبت احتياجات الدفاع الصينية المال اللازم لإسرائيل لتمويل برامج الأسلحة المحلية عالية التقنية. في أحيان كثيرة، لم تستطع إسرائيل استئناف علاقاتها العسكرية مع الصين بسبب الضغوط الأميركية، خصوصاً أن إسرائيل تمتلك بعضاً من أحدث التقنيات في العالم، وتشترك في علاقات استخبارية ودفاعية حساسة مع الولايات المتحدة التي تخشى اطلاع الصين على أسرار التكنولوجيا الأميركية، أو أن تعيد تغليف تقنيات الدفاع الإسرائيلية المتقدّمة لإعادة بيعها إلى منافسيها. ففي مطلع القرن الحالي، عرقلت الولايات المتحدة صفقة بيع طائرات وقطع إلكترونية إسرائيلية للصين، ومنعت استكمال صفقةٍ تُزوّد بموجبها إسرائيل الجانب الصيني بأنظمة إنذار مبكر، وأوقفت في 2005 صفقة بيع معدّات ذكية تستخدم في جمع المعلومات الاستخبارية والمراقبة.
تجاوبت إسرائيل مع المخاوف الأميركية التي تركّزت بدايةً على قطاعي الدفاع والأمن، من خلال قسم مراقبة الصادرات في وزارة الدفاع، إلا أن ذلك لم يُنهِ التوتر، إذ طمست التطورات التكنولوجية الحدود بين أنظمة الدفاع، أو الأنظمة ذات الاستخدام المزدوج، غير الخاضعة للإشراف، وتلك الأنظمة التي ليس لها توظيف دفاعي واضح، ما يعني احتمال أن تسهم إسرائيل في التقدم التكنولوجي الصيني دون قصد. فمنتجات إسرائيل في التكنولوجيا، في مجالاتٍ متعدّدة، وإن كانت مدنية وقانونية، إلا أن معظمها غير خاضع للإشراف، لوقوعه خارج قطاع الدفاع، وقطاع الاستخدام المزدوج، وقد تتحوّل صينياً إلى تقنيات دفاعية أساسية. وتخشى الولايات المتحدة أن تتحوّل المنشآت الصينية الخاصة بالبنية التحتية، ولا سيما قطاعات الاتصال، والسكك الحديدية، والموانئ، وغيرها في إسرائيل، إلى منصّات تجّسس وبؤر تعوق تحرّك القوات الأميركية في حالة الطوارئ. ولمواجهة التهديد الصيني، وفق التصور الأميركي، شدّدت واشنطن القيود على الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة، ولا سيما المتعلقة بالتقنيات الحسّاسة، وحثّت حلفاءها على أن يحذوا حذوها، لكنها لمست تراخياً إسرائيلياً، وبدا أن لإسرائيل تصوراً مختلفاً.
وفي وقتٍ كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يفرض فيه رسوماً جمركية على الصادرات 
الصينية، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، متشجعاً لقبول الاستثمارات الصينية، في البنية التحتية الإسرائيلية الاستراتيجية، من الشحن إلى الكهرباء إلى وسائل النقل العام. ولم يكن مستغرباً أن تكون إسرائيل أوّل محطة يقصدها بومبيو في أول خروج له (في 13 مايو/ أيار الجاري) منذ ظهور الفيروس التاجي، منتهزاً الفرصة لإيصال رسالة حاسمة إلى إسرائيل، مفادها بأنه يجب على إسرائيل وقف جميع الاستثمار الصينية في إسرائيل، سواء في شركات التكنولوجيا الفائقة أو البنية التحتية. وكان ترامب قد حذّر نتنياهو في مارس/ آذار الماضي من أن التعاون الدفاعي، والاستخباري، الأميركي الإسرائيلي، قد يتضرّر إذا لم تتحرّك إسرائيل.
تقدّم الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات أمنية واقتصادية هائلة، وتحميها من تبعات مخالفتها القانون الدولي، وتتوقع في المقابل من إسرائيل تقدير احتياجاتها ومخاوفها الأمنية. في المدى المنظور، هناك عوامل عديدة تدفع إسرائيل إلى مراجعة سياستها تجاه الصين، بعد أن أضرّ تفشّي الفيروس بسلاسل التوريد الصينية، ومن المرجح أن تكون إسرائيل أكثر يقظةً بشأن اعتمادها المفرط على وارداتها من الصين. ولا يمكن إسرائيل أن تغضّ النظر دائماً عن اختلاف وجهات نظرها مع الصين بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كذلك فإن الصين تعارض العقوبات المفروضة على طهران بسبب برنامجها النووي، ولا تزال شريكاً تجارياً رئيسياً لها، في وقتٍ تعتبرها إسرائيل خطراً وجودياً يتهدّدها، ما يجعلها تضع علاقتها مع الصين ضمن حدود المصالح والاتفاقيات التجارية، من دون تطويره تحالفاً سياسياً مع حليفها الفضي الجديد على حساب حليفها الذهبي القديم.
الحكومة الإسرائيلية، ومستشاروها الأمنيون، يأخذون التحذيرات الأميركية على محمل الجد، وقد رأى تقرير لوزارة الخارجية الإسرائيلية أن إسرائيل لن تكون قادرة على التمتع بثمار البنية التحتية الصينية، من دون أن تفقد درجة كبيرة من الدعم الأميركي. ولنتذكّر أن الولايات المتحدة لا تهادن إذا تعلّق الأمر بمزاج خصومها المحتملين ومواءمتهم التكنولوجيا العسكرية الأميركية. فهي قرّرت إخراج تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من البرنامج المشترك 
لصناعة المقاتلة "أف - 35"، بعد إصرار أنقرة على شراء منظومة إس - 400 الروسية للدفاع الجوي، لاعتقاد البيت الأبيض أن منظومة الصواريخ تلك تسمح للاستخبارات الروسية بالحصول على معلوماتٍ عن قدرات "أف - 35" المتطورة. وبالنسبة إلى المسار طويل الأمد للشؤون العالمية، ستكون العلاقات الأميركية الصينية، لاعتبارات عديدة، العامل الأهم في تشكيله. وقد تتأثر دول عديدة، وليس إسرائيل وحدها، لا بصعود الصين فقط، بل أيضاً بالسياسات الأميركية حيالها، وفق تصوّراتها، حقيقية كانت أو متخيلة.
وفاة وي الذي شبّه شيطنة الصين بسبب تعاملها مع جائحة كورونا بسوء معاملة اليهود التاريخية، جاءت بعد أقل من أسبوع من زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، لإسرائيل التي كرّر فيها انتقاده الصين، ودعا قادة إسرائيل إلى تغيير سياستها تجاه الصين. ولم تقتنع بكين بتقرير الشرطة الإسرائيلية الذي عزا سبب وفاة السفير وي إلى سكتة قلبية، وقرّرت إرسال فريق تحقيق إلى إسرائيل، ما يعكس حالة التوتر التي تشهدها العلاقات الصينية الأميركية، ويوحي بمزيد منه في مثلث أميركي صيني إسرائيلي، ولا سيما إذا تكشفت أي مفاجآت يكشف عنها أي تحقيق جديد.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.