الصناعة الثقافيّة: الرفض العظيم (4 - 5)

الصناعة الثقافيّة: الرفض العظيم (4 - 5)

06 مايو 2017
(ديانا أونغ)
+ الخط -


تبدو أنظمة الهيمنة الثقافية كطاعون مرعب منتشر في كل مكان، وخصوصًا في حالة الرأسمالية المتأخّرة التي نعيشها الآن، التي تنتهك ثقافيًا سيادة الدول الوطنيّة، فالصناعة هذه تخلق عبر تقنياتها الوهم بالوعي والخلاص، وأن العالم على ما عليه الآن من الممكن أن يكون أفضل باتباع سلوكيات ما، والنسخة الفضلى منه موجودة على الشاشة، ولا بد من السعي لتغيير الواقع لا بوصفه نتاج منظومة من الهيمنة بل تغييره كي يشابه الشاشة والصورة المثالية التي تقدّمها والمرتبطة بالخطاب السياسي والأيديلوجي للمؤسّسات التي تصنع هذه الصور، إلى جانب تغيير شكل العلاقات إلى ما يشابه الشاشة بما يخدم رأس المال.

الإحباط المرتبط بالصناعة الثقافية وهيمنتها على الفن لا تعني غياب الأمل، بل هناك عدّة مقاربات يمكن عبرها التخلّص من هيمنتها، إحداها كما يدعوها هيربيرت ماركوزة بـ"الرفض العظيم"، وهي محاولة لرفض الأشكال القائمة أدبيًا وفنيًا وانتهاكها في محاولة انتقادها وتفكيكها، وقد رأى في الحركة الدادائية مثالًا واضحًا على القدرة على الانتهاك، ورفض أنظمة التعبير على كافة مستوياتها والتحرّر من الهيمنة الثقافية والأشكال المتاحة والمشرعنة، بوصف الانتهاك قادرًا على تفكيك هذه البنى، ليأتي الرفض العظيم بوصفه دعوة للتحرّر والانعتاق، هو الفن القادر على تدمير الهيمنة وتشكيل الخلاص، عبر رفض حتى تقنيات توليد المعنى التقليدية بوصفها وليدة أنظمة قمعية، بالرغم من أن هذا الكلام رومانسي، إلا أنه ينبع من موقف متشائم من العالم وتقديس لصورة الفن بوصفه خلاصًا وذا هالة ميتافيزيقية يوتوبية.

الوسيلة الأخرى التي يقترحها أدورنو للتخلّص من هيمنة الصناعة الثقافية تتمثّل باللعب بشكله البدائي، بوصفه سابقا على النظام الاجتماعي وأي نظام مغاير، خصوصًا أنه يحرر المخيلة، فاللعب يخلق تتابعا زمنيا وأنظمة للاندفاعات العاطفية وترتيب الأفكار مختلفة عن تلك التي يفرضها الواقع العملي والواقع الصناعي، هو صيغة موازية ومتخيّلة تعكس حريّة الإنسان دون أي برمجة مسبقة، يعبر خلاله عن اندفاعاته ورؤيته للكون بعيدًا عن روتين الاستهلاك، ليكون اللعب أشبه بانفلات لـ"الليبيدو" دون أي قيود أو نمذجة.

تكمن أهمية اللعب في أنه يتجاوز القيود الأخلاقية والسياسية، فاللعب يتخلّص من البنية التي يحيل إليها العمل المنتج مؤسّساتيًا، بوصف هذه البنية تحيل إلى واقع ما وصيغة متماسكة، هذا التماسك هو ما يعتبر نظامًا، لا بد من خلخلته، وهذا النظام سياسي بالمعنى الواسع، يدّعي التماسك ويحيل إلى أيديولوجيا ما، يتمثل ذلك مثلاً في المونتاج في السينما، والتحرير في النصوص النثرية، والتقنيات الروائيّة، فهذه العمليات وليدة شروط سياسية تحكم على مُنتج أن يكون بشكل ما، بوصفها أنظمة لبناء المعنى، أما اللعب فهو يفكّك هذه البنى ويسخر منها ويترك الحريّة للمخيّلة بأن تنفلت من القيود السياسية، ذات القيود والأشكال التي أنتجت أوشفيتز.

بعيدًا عن الصورة الرومانسية التي قدمتها مدرسة فرانكفورت للفن بوصفه خلاصًا، المحاولات المعاصرة تقارب هذا الرفض عبر تقنيات تفكك بنى الهيمنة هذه، كالسرد النرجسي والتخييل التاريخي والمفارقات الساخرة، هذا الرفض يحيل إلى بنى موازية، إلى بدائل أخرى أكثر حرية وانفتاحًا على التجريب، وأهمية هذه الأشكال تكمن في أنها تفكك الخطاب الثقافي السياسي، هي تشكّك في المؤسّسات والأشكال التي ترسّخها، وتدفع للتساؤل حول طبيعة النصوص والأعمال الفنية (النماذج) التي يتمّ تداولها بوصفها "قياسيّة".

الرفض العظيم دعوة لتدنيس كل ما هو مقدّس، كل ما يحاول أن يحكم سيطرته وترسيخ شكل ما، مهما كان هذا الشكل، الرفض العظيم دعوة للتمسك بالاندفاعات الإنسانية الفطريّة، هو دعوة لممارسة الانعتاق ورفض للثنائيات القائمة من نظام وثورة، لاجئ ومواطن، كل ما يمكن أن يهيمن ويرسّخ شكلًا دونيًا بوصف الدونية في حدّ ذاتها هي انصياع للنظام ذاته، هي دعوات لتجاوز صيغ الكرنفال والتظاهرات بوصفها رفضًا مشرعنًا، الرفض العظيم يتمثّل بدعوات للاحتجاج واحتلال الساحات، وحسب تعبير ألبير كامو "أنا أتمرّد، إذن نحن موجودون"، فجسد واحد يكفي لإشعال سلسلة من الأجساد.

المساهمون