الصراع الموهوم بين القومي والديني (1-3)

الصراع الموهوم بين القومي والديني (1-3)

27 يونيو 2019
+ الخط -
يخيم على المشهد الثقافي العام ضرب من الهشاشة والتهافت، هذه الهشاشة تفكك العلاقات داخل المجتمع وتجعلنا نتساءل من جديد من نحن، وهل نحن دين بلا قومية أم قومية بلا دين أم بلا دين ولا قومية؟

لا شك بأن تجليات ذلك الجدل كان بسبب العلمانية التي حكمت البلاد، وقبل أي نقاش لا بد من التفريق بين مدرستين أساسيتين في العلمانية:
الأولى: المدرسة الحازمة أو Aseertive secularism
سماها عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الشاملة، وتحدث عنها باستفاضة كل من أحمد كورو "تركيا" وطلال أسد "الولايات المتحدة"، وتتسم بـ:
1. العلاقة الصدامية بين الدولة والمؤسسة الدينية، والسيطرة عليها وتجييرها لخدمة السياسة.
2. جانب حصر الممارسة الدينية في الفضاء الخاص "شعائر فردية".
3. منع المؤسسة الدينية من تطوير مقاربات مستقلة حول الشأن الاجتماعي والسياسي، ونموذج عليها: العلمانية الفرنسية (اللائكية)، التي كانت أبرز ثمار الثورة الفرنسية التي قامت ضد ثنائية الملكية والكنيسة كرمزين للاستبداد.


الثانية: المدرسة الحيادية
سماها أحمد كورو بالعلمانية السلبية Passive seculrarism والمسيري بالعلمانية الجزئية؛ حيث لا تسعى للفصل الكامل، إنما الجزئي، بين الدين والسياسة لصالح إعطاء المؤسسة الدينية استقلالية ونزاهة أكبر.

حيادية الدولة تجاه الأديان في مقابل استقلال الكنيسة عن الدولة، ويمنح هذا الاستقلال حرية اعتقاد، وتديناً أوسع بعيداً عن محاباة الدولة لاتجاه مسيحي دون آخر، ولا يعني ذلك بالضرورة أن الكنيسة ممنوعة من تطوير مقاربات اجتماعية أو سياسية، بل هي في صلب صناعة السياسات والتشريعات ضمن القوانين المحلية، وحاضرة أيضاً في انتخابات الكونغرس والرئاسة.

نموذج:
طوّرت الولايات المتحدة شكلاً مغايراً للعلمانية أكثر تصالحاً مع الدين، وأكثر قبولاً من قبل الكنيسة الأميركية ذاتها التي طالبت بالعلمانية، سواء كانت كاثوليكية أو إنجيلية، وتتلخص العلمانية الأميركية في أنها لطالما كان الدين هو الضحية إما عبر القمع والتجريف أو عبر الاستغلال والتطويع لخدمة القبلية السياسية والاستبداد.

وعلى الرغم من أن النموذج الأميركي فريد في سياق علاقة الدولة بالكنيسة، فإن دولاً غربية أخرى تتبع ذات المدرسة في شكلها العام، ولا شك بأن العلمانية في أبسط تعريفاتها هي الفصل بين المجالات، وأهم تلك المجالات الفصل بين الدولة والدين. ولا شك بأن هذه الثنائية المتقابلة كان من الممكن التسليم بصحتها في عالمنا العربي والإسلامي، لو طبقت كما هي في الغرب مع تحفاظاتنا على خصوصية المجتمعات والثقافات.

لكن علمانية الشرق العربي والإسلامي هي علمانية لا تقرّ بفصل الدين عن الدولة، وهي مشكلة أساسية في مجتمعاتنا الراهنة حيث تم تحويل الدين إلى جزء من ملاك الدولة أو تأميم الدين وتصنيعه كما يحلو للسلطات.

المشكلة أن العلمانية في شرقنا البائس لا تكتفي بالتسلط السياسي وإنما بتحريف الدين عن معانيه، وأيضاً بغية امتلاك الشعور الجواني للإنسان المواطن المستضعف بعد ترهيبه في خارجه وسلوكه المعاش، ولكي تملأ العلمانية المعنى الديني بتوافه الأمور، ولأنها علمانية مزورة كان لا بدّ من ضخ إشكاليات تعمق الخلاف وتزج الدين في توافه القضايا، وتشغل المتدين عن المحاور والركائز والمقاصد العليا للدين ومنها فكرة صدام القومية والدين.

وعلى الرغم من أن القومية فكرة غربية وهي بالضرورة فكرة علمانية، فقد نشأت القومية كما يشير بعض الكتاب بعد اختراع الطابعة وتعميم لغات محلية، في مواجهة اللغة الرسمية المقدسة اللاتينية المسيحية..

ويعرّف البعض القومية بأنها جماعة متخيلة وكذلك الأمة الدينية، وهذا يقود إلى ما يقرّه البعض ومنهم ساطع الحصري وميشيل عفلق بأن الدين يصبح جزءاً من الهوية وليس هو المكون للهوية، ويذهب البعض إلى أن القومية تسابق الدين وتزاحمه وما يشيعه الكثيرون في عالمنا العربي والإسلامي، وقد كان لنشأة القومية أسباب منها فقدان مصداقية الأفكار الدينية.

الحقيقة أن الجدل القومي الديني برز في الخمسينيات، وذلك بعد الصدام الذي وقع بين الإخوان وجماعة جمال عبدالناصر، فقد استعان عبدالناصر برابطة القومية في مواجهة خصومه السياسيين وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون الذين رفعوا شعار "أبي الإسلام لا أب لي سواه"، ليتناسل من هذا الصدام قيم جعل الدين في مواجهة القومية والقومية تصادم الدين..

تاريخياً تحمل الكثير من المصادر الإسلامية أسماء مناطق البعض وقومياتهم وأصولهم؛ فالبخاري نسبة إلى بخارى، والسيرة الحلبية نسبة إلى موطن مؤلفها، وابن القيم الجوزية نسبة إلى المكان الذي كان يخدمه والده، وتفسير ابن كثير وتفسير الطبري وتفسير الألوسي وتفسير ابن الجصاص وتفسير النسفي.. إلخ.

ماذا يعني هذا؟.. هذا ما سنناقشه في المقال القادم.