الصراع الروسي الغربي على القطب الجنوبي: أبعد من السياسة

الصراع الروسي الغربي على القطب الجنوبي: أبعد من السياسة

15 فبراير 2020
زار البطريرك كيريل أنتاركتيكا في فبراير 2016 (Getty)
+ الخط -

بعيداً عن الخلافات السياسية وسباق التسلّح، يحتدم بين روسيا والغرب صراع جديد حول تثبيت حقائق الجغرافيا والتاريخ. وبعد السجال الدائر حول دور الاتحاد السوفييتي وبلدان البلطيق وبولندا في الحرب العالمية الثانية، تسعى روسيا إلى إثبات دورها الريادي في اكتشاف القارة القطبية الجنوبية، وقد أعلنت أنّ 2020 هو عام أنتاركتيكا، بمناسبة مرور 200 عام على اكتشاف الرحالة الروس القارة. وفي ربط مع ذكرى يوبيلية أخرى، رفع العلماء الروس في نهاية الشهر الماضي، راية النصر في الحرب العالمية الثانية لترفرف إلى جانب العلم الروسي فوق محطة "بيلنغسهاوزن" الروسية في القطب الجنوبي. وأطلقت موسكو برنامجاً واسعاً للاحتفال بذكرى "الاكتشاف العظيم" الذي ما زالت تفخر به إلى اليوم، وفق تصريح النائب الأول لرئيس الحكومة، أندريه بيلوسوف.

وبدأت روسيا في السنوات الأخيرة تولي اهتماماً متزايداً بتعزيز وجودها في القارة القطبية الجنوبية، وأنشأت محطات علمية وبحثية عدة. كما أطلقت تسميات روسية على عدد من المناطق والمعالم في القطب الجنوبي، مذكّرة بأنّ البحارة الروس هم أول من اكتشفوا "الأرض الجنوبية المجهولة"، التي استمرت عمليات البحث عنها منذ القرن السادس عشر، ولكن لم تتمكن أي بعثة من اكتشافها، قبل أن يقترب المستكشف البريطاني جيمس كوك من القارة الجليدية في القرن الثامن عشر، إذ كتب حينها: "لقد درت حول محيط نصف الكرة الجنوبي، وأستطيع أن أقول باطمئنان إنه لن يجرؤ أي شخص على التوغّل في الجنوب أكثر مما تمكنت من ذلك".

لكن وبعد نصف قرن، في 28 يناير/ كانون الثاني 1820، وبعدما تجرأ البحارة الروس في سفينتي "فوستوك" بقيادة فاديه بيلنغسهاوزن، و"ميرني" بقيادة ميخائيل لازاريف، على التوغل نحو الجنوب، وصلت البعثة إلى القارة الغامضة، واكتشفت مناطق عدة، وأطلقت عليها تسميات، مثل جزيرة بطرس الأول، جزيرة زافودوفسكي، جزيرة ليسكوف، جزر فيسوكوي وشبه الجزيرة القطبية الجنوبية، وجزيرة ألكسندر (ساحل ألكسندر).

ويتزامن عام "أنتاركتيكا" الروسي مع ذكرى مرور 175 عاماً على تأسيس "الجمعية الجغرافية الروسية" التي يرأسها حالياً وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ويحرص الرئيس فلاديمير بوتين على حضور اجتماعاتها. وفي العام 2018، أوعز بوتين للجمعية بمساعدة وزارة الدفاع بإعداد أطلس جديد للعالم يتضمّن التسميات الروسية للمناطق، في إطار التصدي لمحاولات تشويه "الحقيقة التاريخية والجغرافية"، وإهمال الغرب استخدام التسميات الأصلية للمناطق التي كان الفضل لمكتشفين روس بالوصول إليها. وحضّ بوتين على إعادة الاعتبار لجهود المكتشفين الروس والسوفييت، مشيراً إلى أنّ أسماء المواقع الجغرافية التي اختارها البحاران الروسيان المستكشفان ميخائيل لازاريف وفاديه بيلنغسهاوزن في القارة القطبية الجنوبية، تكاد لا تستخدم عملياً من قبل دول أخرى، على الرغم من أنّ فضل استكشاف هذه المنطقة يعود إلى باحثين روس.

وتُظهر روسيا اهتماماً متزايداً بالقارة القطبية الجنوبية. وفي السنوات الأخيرة فعّلت خمس محطات تعمل على مدار العام، بالإضافة إلى عدد من المحطات الصيفية، في حين تنتظر 18 محطة أخرى مغلقة منذ العهد السوفييتي دورها للعودة للعمل وتعزيز وجود الروس في أقصى جنوب الكوكب.

ومن اللافت أنّ أغلب المحطات الروسية الموجودة في المنطقة، تم إنشاؤها في العهد السوفييتي، بعد إرسال البعثة الأولى إلى أنتاركتيكا في العام 1955. ولم تبنِ روسيا محطات جديدة منذ ذلك العهد، إذ اكتفت بتنظيف محطاتها السوفييتية، وإزالة القمامة منها، وتحديث بعضها. وفي العام 2015، تمّ تطهير كل المحطات الروسية من المواد المشعة، التي استخدمها الاتحاد السوفييتي لتوفير الطاقة لبعثاته إلى القارة القطبية.


وفي حديث سابق له، قال نائب وزير الموارد الطبيعية والبيئة في الاتحاد الروسي، مراد كريموف، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "روسيسكايا غازيتا"، إنه "تم إنشاء البنية التحتية الحالية والمساكن في محطات أنتاركتيكا الروسية التي يعيش ويعمل فيها المستكشفون القطبيون، في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين"، موضحاً أنّ الاستثناء الوحيد، هو المجمع الشتوي "بروغريس" الذي بني في العام 2012 في إطار البرنامج الاتحادي "محيطات العالم".

وكشف كريموف أنه "في السنوات المقبلة، نخطط لتحديث البنية التحتية، وسنبدأ من محطة فوستوك... كما ستصبح محطة روسكايا الموسمية محطة شتوية دائمة، ما يتطلب إعادة بنائها بدءاً من العام 2021".

وينحصر نشاط المحطات القطبية والبعثات في القارة الجنوبية بالنشاط العلمي، إذ تحظر معاهدة القارة القطبية الجنوبية الموقعة في ديسمبر/ كانون الأول 1959، وينتهي العمل بها في 2048، أي استخدامات عسكرية أو إنشاء أي قواعد عسكرية، أو تنفيذ أي تجارب ذات طابع عسكري على أراضي القارة، كما تحرّم أي محاولات لاستخراج الموارد الطبيعية من أراضيها ومياهها.

وعلى الرغم من حظر القانون الدولي لعمليات استغلال الموارد الطبيعية، وعدم توفر التقنيات حالياً لاستكشاف واستخراج الثروات من تحت الجليد في القطب الجنوبي، إلا أنّ الصراع يحتدم على براهين تاريخية وجيولوجية يمكن أن تستخدم لاحقاً لإثبات الحقّ في استغلال أكبر قدر ممكن من الثروات. وعلى سبيل المثال يدور نزاع بين روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا حول الحقائق التاريخية، خصوصاً بشأن هوية أول مستكشف للقارة المتجمدة.

كما انضمت دول أخرى إلى الصراع، منها الصين وأستراليا وبريطانيا والهند وكوريا الجنوبية وبلجيكا، وحتى إستونيا، التي تستند إلى الجذور الإستونية للرحالة الروسي فاديه بيلنغسهاوزن، أول من اكتشف القارة النائية. أمّا الهند، فتقول إنّ جرفها القاري كان قبل 100 مليون سنة مرتبطاً بالقارة القطبية الجنوبية، مؤكدةً أحقيتها في أراضي أنتاركتيكا. في حين تتبع روسيا التي أحيت نشاطها العلمي في القارة القطبية الجنوبية، استراتيجية "تحديد المعالم"، إذ فعّلت نشاطها العلمي والبحثي في القارة القطبية، وتقوم منذ العام 2008 بإطلاق أسماء روسية على عدد من المعالم الجغرافية هناك.

ويحظى الجهد الحكومي لتثبيت دور روسيا في اكتشاف القارة بدعم كبير من منظمات أهلية. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، رفع فريق من الرحالة والرياضيين علماً روسياً بمساحة 1423 متراً مربعاً في القطب الجنوبي. ومع بناء كنيسة في أبعد نقطة أقصى جنوب العالم، دخلت الكنيسة الأرثوذكسية على الخط في دعم توجهات الكرملين. وبنيت الكنيسة في العام 2003، وهي الوحيدة العاملة على مدار العام على الرغم من انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون 70 تحت الصفر. وزار البطريرك كيريل أنتاركتيكا في فبراير/ شباط 2016، وأقام قداساً في الكنيسة الموجودة في محطة بيلنغسهاوزن الروسية. وقال في حوار مع قناة "روسيا 24"، إنّ "القارة القطبية الجنوبية هي آخر المناطق الآمنة على الكوكب، ولا توجد فيها حروب"، مذكّراً بأنّ كاهناً من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية صاحب بيلنغسهاوزن في رحلته الأولى إلى هذه القارة، حين تم اكتشافها.

وعلى الرغم من الطبيعة الجغرافية والجيولوجية المختلفة لقارة أنتاركتيكا، إلا أنه لا يمكن فصل الصراع عليها عن الصراع المحتدم على الجرف القاري القطبي. وفي العام 2015 أكدت روسيا حقها في السيطرة على مناطق واسعة في القطب الشمالي، وطالبت عبر وثيقة إلى الأمم المتحدة بتأكيد سيادتها على منطقة إضافية تبلغ مساحتها 1.2 مليون كيلومتر مربع من الجرف القاري القطبي الشمالي، مؤكدةً أنّ الأبحاث التي أجرتها أظهرت أحقيتها بهذه المساحة الإضافية من المنطقة القطبية. وفي العام 2019، أعلنت "الجمعية الجغرافية الروسية" أنّ مساحة روسيا التي تشكّل نحو سدس اليابسة وتصل إلى 17 مليون كيلومتر مربع ازدادت بنحو 60 ألف متر مربع مع اكتشاف خمس جزر جديدة ظهرت بعد ذوبان الجليد بفعل التغير المناخي. وقال بيان لوزارة الدفاع الروسية إنّ الجزر تقع في خليج فيز قبالة الساحل الشمالي الشرقي لمنطقة نوفايا زيمليا (الأرض الجديدة)، التي تقسم بحري بارنتس وكارا في المحيط المتجمد الشمالي.

وفي حين يدقّ العلماء نواقيس الخطر من أنّ ذوبان الجليد في القارة القطبية يمكن أن يتسبب بكارثة تطاول جميع سكان الأرض، توظّف حكومات العالم بما فيها روسيا، الكثير من إمكاناتها لتثبيت حقائق تاريخية وجيولوجية تمنحها الحق في استغلال ثروات دفينة، وسط مخاوف من تأثيرات تغيرات المناخ المتسارعة التي لا تعيرها موسكو الاهتمام الكافي.

المساهمون