الصدر وتلك الجريمة النكراء

الصدر وتلك الجريمة النكراء

17 فبراير 2020
+ الخط -
لم يعد هناك شك في أن مقتدى الصدر هو المسؤول الأول عن ارتكاب الجريمة النكراء بحق الشعب العراقي، وذلك باقتحام مليشياته، ذات القبعات الزرق والملابس السوداء، ساحات التحرير في عدة مدن عراقية، وحرق خيم الثوار وإطلاق الرصاص الحي والقنابل اليدوية على رؤوسهم وصدورهم العارية، على الرغم من سقوط عشرات الشهداء والجرحى خلال أيام معدودات. وقد حدث ذلك بعد استدعاء الصدر إلى مدينة قم الإيرانية، وعقد صفقة عار هناك لإنهاء الثورة العراقية بقوة السلاح، مقابل تحقيق حلمه بتنصيبه زعيما أوحد لجميع المليشيات المسلحة. وللصدر سجل أسود في هذا الخصوص، فكلما عجزت الحكومة ومليشياتها المسلحة في إنهاء أية انتفاضة، بالطرق العسكرية، أو بوسائل الخداع والتضليل والوعود الكاذبة، يتولى إنجاز هذه المهمة. وكان أكثر ما يثير الاشمئزاز في هذا الفعل المشين الطريقة التي برّر بها الصدر ارتكاب الجريمة النكراء، وهي توجيه اتهامات الحكومة الجاهزة للثوار، من قبيل أنهم مندسّون أو يتعاطون المسكرات والحشيشة، أو مشبوهون يحملون أجندات أجنبية، غرضها تخريب البلد وتهديد أمنه واستقراره. ولولا فشل الولي الفقيه والحكومة التابعة له في العراق في أداء هذه المهمة القذرة، لما دعت الحاجة إلى تكليف الصدر بمهمة تصفية الثورة، وإظهار إيران أمام العالم أنها القوة الوحيدة الضاربة في العراق.
ولكن رياح الصدر والإيرانيين قد سرت بما لا تشتهي سفنهم، فكلما ازداد عدد الشهداء والجرحى والمخطوفين ازداد الالتفاف حول الثورة، وكلما حرقت خيمة من خيامهم، أقام الثوار عشراً بدلا منها، بل ازدادت حظوظ الثورة بالانتصار، حيث وفرت لها هذه الجرائم مشروعيتها وفرصها الكبيرة بالانتصار. ناهيك عن النقمة التي تولدت في نفوس العراقيين ضد الصدر، وتياره المنفلت، جرّاء افتضاح أمره، لما ارتكبه من تفريط باستقلال العراق وسيادته الوطنية.
لقد أثبت الثوار صمودا أسطوريا وأحبطوا مخطط الجريمة، في حين أنها ليست المرة الأولى التي يحاول فيها مقتدى الصدر إنقاذ العملية السياسية من السقوط، كلما عجزت أطرافها عن
 حمايتها. حيث كان يدفع على الدوام بتياره إلى إنهاء أية انتفاضة شعبية واعدة، من خلال ركوب موجتها وفرض هيمنته عليها، والتفرّد بقيادتها، والتحكّم بمسيرتها، وادّعاء تمثيلها، أو بتحجيم مطالبها، واختزالها بمطلب واحد، مثل "تشكيل حكومة تكنوقراط". وتارّة يقيم منصاته في ساحة التحرير في بغداد، ومرّة ينصب خيامه خارج المنطقة الخضراء، ومرّة يعتصم بمفرده داخلها، ومرّة يأمر بفضّ الاعتصام، وأخرى يشارك نوابه المعتصمين بالبرلمان، ثم يأمر بانسحابهم. وهذا كله من أجل تقديم نفسه أمام إيران وأميركا، الراعيين للعملية السياسية، الوحيد القادر على القيام بهذه المهمة، والحفاظ على مصالحهما في العراق والمنطقة. ودعكم من شعارات السيد من قبيل "شلع قلع كلهم حرامية"، فالحرامية الذين قصدهم مقتدى الصدر ما زالوا في أماكنهم معزّزين مكرّمين، بل وجعل منهم قضاة أشرافا، يحكمون بين الناس بالعدل، ويقيمون الحدود، وينصفون الشعب المظلوم، ويأمرون بالإصلاح واجتثاث الفساد. وهذا ما يفسر رعاية الحكومة المظاهرات، حين يتمكّن الصدر من ركوبها وحماية خيام اعتصامه قرب أسوارالمنطقة الخضراء، واستقبال الأجهزة الأمنية له عند دخوله إليها، ووضع حراسات مشدّدة حول خيمته، واتخاذ كل الإجراءات
 الضرورية واللازمة للحفاظ على حياته، بينما يجري قتل المتظاهرين بدم بارد، حين تكون المظاهرات والانتفاضات مستقلّة عنه.
لا جدال في أن الثورة العراقية تتعرّض لامتحان صعب، فقوة السلاح تحصد أبناء الثورة من دون رحمة، والتحايل عليها بالوسائل السياسية يجري على قدم وساق، جديده تكليف محمد توفيق علاوي بتشكيل حكومة جديدة مستقلة، وجوقة المطبلين والمرتزقة والأقلام الماجورة شرعوا، منذ فترة، في تنظيم حملة دعائية ومضللة، بشأن الحكومة المنتظرة، وقدرتها على إنقاذ العراق من محنته. ولتمرير هذه الحكومة بين الناس، وكسب التأييد لها، سمّى علاوي حكومته المؤقتة، وادّعى أنها ستاخذ على عاتقها إجراء انتخابات مبكرة للإتيان بحكومة وطنية، تتمكّن من ضرب الفاسد مهما كان منصبه أو حزبه، والقيام بثورة حقيقية ضد الفساد، "وفتح ملفاته الكبرى"!. ولم يكن أعضاء البرلمان بعيدين عن هذه المسرحية، حيث أعلنوا بصوت عال: "لا بد من مشروع وطني متكامل لإنقاذ الاقتصاد العراقي، في مقدمة أهدافه إعلان الحرب على الفساد، وتفكيك قيوده التي قيد بها نشاط الدولة. وأن يُصار إلى وضع خطط متكاملة، تهدف إلى إنقاذ الاقتصاد الزراعي والصناعي، ودعم الرأسمال الوطني، وتوفير كل المستلزمات لبقائه في
 البلاد"!
وعلى حس الطبل خفّت أرجل زعماء الكتل وحيتان الفساد، فشقّوا الجيوب حزنا على الشعب العراقي، وما عاناه من ظلم واضطهاد. وتسابقوا في ما بينهم لعرض بضاعتهم الإصلاحية، حتى خيل لنا، ونحن نسمع هذه الإعلانات ونراها، أن المفسدين ليسوا هؤلاء المساكين، وإنما هم بشر هبطوا من كوكب آخر، أو من فصيلة الأشباح، أو ربما، كما تهكّم بعضهم، بأنهم الشعب العراقي، أو أبناء الثورة نفسها. ولكي تكون زفّة العروس مهيبة، ويتحدّث الناس عنها، دخلت أميركا وحلفاؤها بكل ثقلهم على خط الحكومة المرتقبة، فطلبوا من رئيسها الإسراع بتحقيق الإصلاحات وترميم العملية السياسية. والغرض المركزي من كل هذه المحاولات الالتفاف على الثورة، وتفريغ شعاراتها من محتواها الحقيقي، وإقناع أبنائها بالعودة إلى بيوتهم بانتظار خرافة التغيير على أيدي القتلة والفاسدين.
ومع ذلك كله، الثورة صامدة، ولن تهاب القوة العسكرية، ولا يمكن خداعها بوعود كاذبة أو إصلاحات ترقيعية، من قبيل تغيير هذا الرئيس بذاك، أو تدوير الوجوه الكالحة أو تعديل قانون الانتخابات أو مفوضيتها العليا أو إجراء انتخابات مبكرة تحت رعاية الأمم المتحدة، فأبناء الثورة قد عقدوا العزم على تحقيق مطالبها المشروعة، وأهمها إسقاط الحكومة والعملية السياسية برمتها، واستعادة وطنهم المنهوب بدون هؤلاء الأشرار، إذ لم يعد خافيا على الثوار أن جميع الحكومات المتعاقبة قد أطلقت مثل هذه الوعود الكاذبة، وأدركوا تماما أن تشكيل أية حكومة لم يجر من أجل إنقاذ العراق من محنته، ولا من أجل عيون الشعب العراقي، وإنما يجري تحت خيمة العملية السياسية التي فرضها المحتل الأميركي. وخير دليل على ذلك النتائج التي أفرزتها على مدى سني الاحتلال العجاف، حيث الدمار والخراب الشامل، وانتشار الفواحش والجرائم، والعجز التام في تقديم الخدمات والأمن، والتهجير والتفريط بالسيادة وضياع الثروات، والقائمة في هذا الخصوص طويلة ومؤلمة. ناهيك عن أن هؤلاء الأشرار لم يكتفوا بما قتلوا وما سرقوا، وإنما يصرّون على الاستمرار في هذا الطريق، بل أصبحت لديهم القناعة الكاملة أن هؤلاء ليسوا إلا مجموعة من الحرامية والقتلة، فقدوا ضمائرهم وشرفهم، وخانوا وطنهم، وارتضوا أن يكونوا عبيدا للأجنبي.
خلاصة القول، وضع الثوار في العراق أيديهم على المعادلة وطريقة حلها التي تؤكد أنه إذا لم يتم القضاء على السبب، فلا أمل في القضاء على نتائجه، حيث التدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان سببه الاحتلال وحكوماته المتعاقبة ومليشياتها المسلحة. وإذا حدث أي تغيير، فإنه لن يتعدّى بعض الإصلاحات الترقيعية، والتي هي أشبه بالمسكنات التي تخفف عن المريض آلامه، ولا تقضي عليها. أما مقتدى الصدر فإنه لن ينجو من عقاب العراقيين على الجريمة التي ارتكبها أتباعه خدمة للإيرانيين، وستبقى دماء الشهداء في رقبته تقض مضجعه، حتى يوم الحساب العسير.
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي