الصحف السورية : 3 في 1

الصحف السورية : 3 في 1

05 ابريل 2016
الفنان الأميركي أليس كنت ستودارد (Getty)
+ الخط -
الحديث عن الصحافة السورية ممتع ومسلٍّ. وحيثما تجولتَ فيه تعثر على أشياء طريفة. فمثلاً: كان معظم الكتاب السوريين ينشرون في الصحف السورية قبل الثورة، ومع ذلك تحولت هذه العملية، أثناء الثورة، إلى تهمة تقترب من مستوى الخيانة الوطنية! السبب، برأي هؤلاء المُنتقدين المُخَوِّنين، أن هاتيك الصحف وُجدت لأجل تمجيد النظام والأسرة الحاكمة، ولو أنها كانت صحفاً وطنية لكان من حقكم وواجبكم، أيها الكتاب السوريون، أن تكتبوا فيها... ونقطة على السطر. 

في الوقت نفسه اتخذ أنصار النظام من هذه التهمة سلاحاً يحاربون به الكتابَ الموالين لثورة الشعب. فإذا أنت انتقدتَ النظامَ السوري، ومؤسساته الأمنية والإعلامية، ينبري لك أحدُهم، مذكراً إياك بأنك كنت، قبل الثورة، من كتاب صحف البعث والثورة وتشرين! وهذا، برأيه، سبب كافٍ لتفقد حقك في قول أي كلام.

حقيقة الأمر أنه كان في سورية نوعان رئيسيان من الكتاب، الأول صحافيون موظفون في الصحف الثلاث (إضافة إلى صحف المحافظات والنقابات المهنية، كالعمال والفلاحين والشبيبة واتحاد الطلبة وجيش الشعب والشرطة)، برواتب شهرية وتعويضات إضافية. ‏وكان الشعار الأزلي لهؤلاء الناس "امشِ بجوار الحائط، وقل يا رب سترك"، لذلك فإنهم، عدا استثناءات قليلة، يرضخون لتوجيهات وزير الإعلام، أو المدير العام للصحيفة التي يعملون فيها، أو المخابرات، ويكتبون ضمن النهج الإعلامي المتبع، ويلتزمون بمديح رأس النظام، وخصوصاً في فترات الأعياد التي كانوا يسمونها: الأعياد القومية، أو أعراس الوطن. والنوع الثاني أدباء وفنانون وصحافيون يكتبون من خارج الملاك الوظيفي للصحف، لقاء مكافآت (على القطعة)، وهؤلاء لا يستطيع أحد أن يُجبرهم على مديح أو نفاق، على الرغم من قبولهم بالكتابة ضمن الهامش الرقابي المتاح. 

وهناك أنموذج ثالث، هو الذي سماه الروائيُّ، نبيل سليمان، (أنموذج المثقف العظروط)، الذي يكذب ويمدح وينافق، شعراً ونثراً وخطابةً، من دون أي خجل، أو وازع من ضمير.
نستطيع أن نتحدث، الآنَ، عن ظاهرة طريفة جداً تتلخص في أن هناك كتاباً وصحافيين مشاهير، من خارج الملاك الوظيفي، يتناوبون على النشر في معظم أعمدة الصحف وزواياها، طيلة الأيام العادية، حتى إذا حلت مناسبة الثامن من مارس/ آذار، أو السابع من أبريل / نيسان، أو السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، أو السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، فإن هؤلاء يختفون تماماً، لأنهم غير مستعدين للنفاق، ويظهر بدلاً منهم كتاب نكرات، عظاريط، يملأون مساحات الصحف الشاسعة بأكاذيبهم وأماديحهم الخالية من أيّ قيمة فنية، يستمرون في نشاطهم المحموم بضعة أيام، ثم يختفون وكأنهم لم يكونوا قط!
كانت الرقابة السورية تزيد في طين الحالة الصحافية السائدة بلة، إذ تمنع دخول الصحف العربية، واللبنانية بشكل خاص، إلى الأسواق السورية، وبالتالي فقد كان القارئ السوري محكوماً بمتابعة البعث والثورة وتشرين، التي كانت تعمل كما لو أن مديرها العام واحد! ورئيس تحريرها واحد! وفريق تحريرها واحد! وأرشيفها واحد! فكانت، كلها، مولعة بالمقاومة والممانعة، والصمود والتصدي، وحب الأب القائد، والإشادة بعطاءات القائد، وانتصارات القائد، واستقبالات القائد، وتوديعات القائد، وسياسات القائد الحكيمة، إضافة إلى ما كان يأتي من أخبار، حيث المعامل تعمل بنسبة 100% من طاقتها الإنتاجية، والعاملون في القطاعين الاقتصادي والإداري يلتزمون بتوجيهات القائد، والوزير المختص، والقيادة القطرية... إلخ. 
هذا الواقع أنتج مجموعة من النكات المعبرة، منها أن أحد المواطنين قرأ خبراً على الصفحة الأولى من صحيفة "البعث"، وحينما انتهى العمود الصحافي وجد عبارة مكتوبة بين هلالين هي: البقية في صحيفة "الثورة". وزعموا، أيضاً، أن رجلاً سورياً كان لديه هوس بشراء الصحف الثلاث، "البعث" و"الثورة" و"تشرين". وفي ذات يوم فوجئ هذا المواطنُ بصاحب الكشك يقول له: اليوم "البعث" و"تشرين" معطلتان. فقال له: ما في مشكلة، أعطني ثلاث نسخ من جريدة "الثورة".

لم تكن الصحافة السورية، مع هذا كله، خاوية على عروشها، فكان هناك، خلال فترات متقطعة، خروجات على الخط العام الرسمي الموصوف أعلاه، يشارك في صنعها أدباء وفنانون مهمون للغاية. فعدا عن تجربة الشاعر محمد عمران في ملحق الثورة الثقافي التي استقطبت أسماء كبيرة جداً في عالم الأدب والثقافة والفنون، نذكر أن محمد الماغوط كان ينشر زاوية أسبوعية في "مجلة الشرطة"، وعلي فرزات يرسم كاريكاتيراً يومياً في صحيفة الثورة، وكانت لحسيب كيالي زاوية أسبوعية في صحيفة البعث.

وكان يكتب في الصحف السورية كل من شوقي بغدادي وغسان الرفاعي وحنا مينة وممدوح السكاف ومحمد جمال باروت وزكريا تامر ووليد إخلاصي وفرحان بلبل وممدوح عزام وياسين رفاعية ووليد معماري ونبيل سليمان وحسن م يوسف وعادل محمود، إضافة إلى الكتاب الذين استقطبتهم جريدة الأسبوع الأدبي التي رأَس تحريرها في البداية الروائي، عبدالنبي حجازي، ولكنها تحولت مع مرور الزمن إلى مكان للتسكع والتعيش من أعضاء الاتحاد العاطلين عن العمل.

هذه إضاءة سريعة لواقع الصحافة السورية (قبل الثورة السورية). وسنعود إليه، في وقت لاحق، لننهل منه المزيد من اللطائف والطرائف.

دلالات

المساهمون