الشيخ إمام.. صوت وعود وقضيّة

الشيخ إمام.. صوت وعود وقضيّة

06 يونيو 2015
+ الخط -

لعلّ آخر ما رآه ابن الأشهر القليلة، وجه أمه الخائفة من فقدانه، فهو الناجي الأول بعد سبعة إخوة ماتوا قبله. وبسبب خشيتها عليه، أفقدته البصر باستخدامها خلطة أعشاب، حين كانت تحاول علاجه من "الرمد الحُبيبي". أمه، التي رأى الدنيا من خلال صوتها وغنائها له، قيل إنه ورث حُسن الصوت عنها، وحفظ من خلالها الغناء الريفي والطربي.

في سن الحادية عشرة تمكّن من حفظ القرآن. أراد له والده أن يكون شيخاً، فألحقه بالجمعية الشرعية التي طُرد منها لاحقاً، بسبب ضبطه في أحد المقاهي يستمع إلى قراءة الشيخ محمد رفعت عبر المذياع الذي كان يعتبر فعلاً باطلاً. تلك الحادثة التي جعلت والده يتنكّر له إلى الأبد؛ بعد حياة أسريّة شابتها القسوة والفقر.

في عمر مبكر احترف الشيخ إمام عيسى (1918 - 1995)، الذي تحلّ غداً ذكرى رحيله العشرون، التجويد والإنشاد الديني لكسب عيشه. وكان في السابعة عشرة حين التفت إليه الشيخ درويش الحريري (1881-1957)، أستاذ الموشحات والمقامات والقراءات في معهد "فؤاد للموسيقى"، الذي تتلمذ على يديه ألمع موسيقيي ذلك الزمن، مثل زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش.

تعلّم إمام منه أصول المقامات والإيقاعات الشرقية، من خلال غناء الموشحات والأدوار من دون آلة موسيقية، إذ لم يكن الشيخ درويش يتقن العزف على أية آلة، إضافة إلى كونه ضريراً أيضاً، الأمر الذي جعل الشيخ إمام يعتقد أن تعلّم العزف على العود حكر على المُبصرين.

راح الشيخ يغنّي ما تعلّمه من موشحات وأدوار في المناسبات، مستعيناً بعازفي عود كان يعلّمهم اللوازم الموسيقية عبر غنائها لهم، إلى أن صادف ضريراً يغني ويعزف العود، الأمر الذي أثار فرحته؛ فطلب من كامل الحمصاني، أحد عازفي العود الذين كانوا يرافقونه، أن يعلّمه مواضع الأصابع والنغم على آلة العود، وكان في العشرين من عمره حين عكف على دراسة الآلة وترجمة كل ما يعرف ويحفظ من مقامات وموشحات وأدوار على آلته بنفسه.

تعرّف الشيخ إمام إلى زكريا أحمد في إحدى الجلسات، لتبدأ بينهما علاقة وثيقة. أُعجب أحمد بأداء إمام وبمساحاته الصوتية في القرار والجواب وذاكرته القوية، فصار يسمع أغانيه التي يلحنها لأم كلثوم بصوت إمام، يسترجع ما نسيَه، ويستكشف مواطن الضعف في اللحن قبل عرضه على الست، إلا أن إمام كان يسرّب هذه الألحان في مجالسه مفاخراً، حتى وصل الأمر لأم كلثوم، ما أثار غضبها وغضب أحمد، فكانت نهاية العلاقة بينهما.

ظل يقدم وصلاته الغنائية مع محاولاتٍ في تلحين كلماته، إلى أن التقى في عام 1962 بالشاعر أحمد فؤاد نجم، بعد أن كان قد اعتزل التجويد والإنشاد واحترف الغناء والعزف. وجد إمام عند نجم الكلمة التي تتوافق وفكره، فكانت "أنا توب عن حبك" أول تعاون بينهما، إذ برزت مقدرة إمام على التلحين وعمق فهمه للمقام، حيث بدا واضحاً تأثره بخط سير زكريا أحمد، ولكن بروحه الخاصة.

تميّز هذا اللحن الذي وضعه على مقام الصبا بنظم إيقاعي يتماشى وتقطيع الكلام دون ثرثرة نغمية، ومن الصبا الحزين ينتقل بسهولة دون فذلكة لحنية إلى مقام العجم الذي يعتبر عكس الصبا من حيث الإحساس.

بعد نكسة عام 1967، بدأ إمام بتوجّه غنائي جديد، سيشكل من خلاله الهوية الموسيقية التي عرفناه بها. وبعيداً عن الموضوعات السياسية والوطنية والاجتماعية الساخرة التي تناولها الشيخ الضرير الثائر، إلا أن أهمية إنجازه الموسيقي قد لا تقل عن أهمية سيد درويش، إذ استخدم كافة أدواته، من غناء شعبي وإنشاد وموشحات وعلمه في المقام والإيقاع. ويحسب له استخدام إيقاع السماعي الثقيل ـ تميّزت به الموشحات، في أغاني مثل "يا مصر قومي وشدّي الحيل"، وهذا لم يكن شائعاً. كما استخدم روح الإيقاع الكربلائي المعروف باللطميات في أغنية "جيفارا مات".

استطاع إمام أن يطوّع المقامات العربية وأن يخرجها من شكل عرضها التقليدي. مثلاً استخدم مقام البيات في أغنية "وه يا عبد الودود"، وهو مقام يُستخدم للفرح على غرار أغنية "دقّوا المزاهر" لفريد الأطرش، كما استخدم مقام الصبا الحزين في أغنية "يا فلسطينية" الحماسية.

في كثير من أعماله نلاحظ وعيه ودرايته في قوانين الـ"هارموني"، وهو تجانس نغمتين مختلفتين في الوقت نفسه، أو على طول جملة موسيقية، وأيضاً الـ"كُنترا بوينت"، وهو عزف لحنٍ مختلف بالتزامن مع اللحن الأصلي. تقنيات يصلح تطبيقها بسهولة مع أوركسترا، ولكنه استطاع أن يستخدم تلك التقنيات بعود وإيقاع وكورَس فقط، وكان بصوته يلعب كل تلك التغييرات اللّحنية، نأخذ مثالاً أغنية "دولا مين" وآخر مقطع من أغنية "بعد السلام والمرحبا".

في ذكرى وفاته العشرين، لا بدّ من الإشارة إلى أنه قد يكون أول من اعتُقل في مصر بسبب أغانيه، وأول من انتشر إرثه من دون أن يخطو نحو باب استديو طوال حياته.

اختار أن يكون في صف الفقير ـ المُفقر بالأحرى ـ والمظلوم، في الوقت الذي سنحت له الفرصة أن يصيب الراحة في كنف السلطة. في صباح السابع من حزيران/ يونيو عام 1995، وبـ42 كلمة فقط، كُتب خبر وفاة الشيخ وتلته مباركات وأخبار أخرى، كأنه خبر عادي هامشي، بعد أن أمضى عشرَ سنين منعزلاً منسيّاً مرفوضاً من نظام الحكم، وغير مرحب به من تيار المعارضة الإسلامية التي ظهرت عقب اغتيال السادات. وبالرغم من محاولات طمس هذا الإرث، إلا أنه بقي كما أراد أن يكون؛ أغنية من الشعب وإلى الشعب.

دلالات

المساهمون