الشعبوية.. خداع الجماهير بالتماهي معها

الشعبوية.. خداع الجماهير بالتماهي معها

26 يوليو 2019
+ الخط -
عند الحديث عن الشعبوية، فإن الانتباه، في العادة، ينصرف إلى توظيفاتها في الفضاء السياسي من أشخاص وتيارات يتكئون على خطابٍ مستغرق في الكراهية وإشاعة الخوف، ويقوم على معلومات كاذبة ومضللة، من أجل كسب تأييد بسطاء العوام. ولعل أبرز مثال حديث في هذا السياق، الرئيس الأميركي، دونالد ترامب الذي أثبت أن الشعبوية تملك ألقاً حقيقياً في القرن الواحد والعشرين، حتى في أكثر المجتمعات الإنسانية تقدّما فكريا وتكنولوجيا. وها هي دولة ديمقراطية عريقة أخرى، هي بريطانيا، تسير على خطى الولايات المتحدة، فتأتي بزعيم شعبوي آخر، هو بوريس جونسون الذي لا يقل ضحالةً وخفّةً عن ترامب، ولكنه مثله يعرف كيف يلعب على عواطف الناس وإثارة مخاوفهم. والشعبوية، فلسفياً، تعادي الحقائق والعلم، وتصنع من الجهل والكذب حقائق بديلة، تدغدغ عواطف العوام ومشاعرهم، وتعزّز القناعات الخاطئة المتأصلة لديهم، على الرغم من أنها لا تملك من المنطق شيئا. أما السياسي الذي يوظف الشعبوية منهجا فهو يعلم أنها من أقصر الطرق إلى تحقيق شعبيةٍ واسعة، أو حتى للوصول إلى السلطة، فالدهماء في كل المجتمعات نسبة كبيرة لا يستهان بها. المفارقة هنا أن الجماهير التي تنهض الشعبوية على ظهورها تنتهي هي نفسها ضحية لها، عبر حكم ديكتاتوري مطلق تكتوي بناره، أو كوارث تحلّ بها، كما حصل في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وليبيا القذافي، وكما يحصل في مصر اليوم، وغيرها من الدول. 
ليست الشعبوية محصورة في الفضاء السياسي، بل إنها تمتد لتشمل فضاءاتٍ ومجالات أخرى، أخطرها دينية وفكرية. ويمكن أن يلحظ أي متابع اليوم بسهولة كيف تحظى شخصياتٌ في الحقل الديني بشعبية جارفة، على الرغم من ضحالتها العلمية، ومن أن بضاعتها فيه مزجاة. كل ما يحتاجه هؤلاء ملكة الخطابة أو فصاحة القول، أو اللحن فيه، أو تبني أكثر الآراء تشدّدا، 
أو أكثرها شذوذا. يتم ذلك من دون ناظم موضوعي، ومن دون منهج مضبوط متبع. المهم هو ما يرضي الجماهير، في حين يخشى كثيرون من أصحاب العلم الحقيقي أن يبوحوا بقناعات ونتائج توصلوا إليها عبر دراسةٍ عميقة، وبحثٍ حثيث، مخافة استثارة عوام الناس بتحريض من أصحاب العلم الضحل. ولعل في نموذج الشيخ الراحل محمد أبو زهرة، وتردده في البوح عن موقفه من حكم رجم الزاني والزانية في الشريعة الإسلامية ما يغني عن كثير تفصيل، من دون أن يعني ذلك تبنّيا لرأيه أو معارضة له هنا. ينطبق الأمر نفسه على مفكرين كثيرين يجدون أنفسهم يمارسون رقابة ذاتية، مخافة أن تصدر أحكام بكفرهم أو زندقتهم أو خيانتهم من أدعياء تفكير لا يعرف عنهم إلا سعيهم الدائم إلى نقض جهود الآخرين، عبر التسلق على أكتاف المبدعين بغية هدمهم.
ثمّة فضاء رابع تزدهر فيه الشعبوية والشعبويون، ويتمثل في المزايدة على الآخرين في المواقف، عبر التماهي مع مشاعر العوام، طلبا لشعبيةٍ رخيصة، حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة. هذا النوع من الشعبوية والشعبويين أكثر ما تجده في السياق الحزبي والأيديولوجي، حيث يتعذر، في أحيان كثيرة، إجراء حوار مثمر أو تقديم نقد بناء في أفق تطوير الأفكار وتصويب المسار. كثيرا ما يجد صاحب الرأي الناقد أو المخالف لتوجه السواد الأكبر من القواعد التنظيمية والجمهور الأيديولوجي نفسه عرضةً لهجوم شرس، يشكك في إخلاصه ووفائه للمبادئ، وبالتالي يتم نزع الشرعية عن رأيه وتهميشه. في حين يتحوّل الشعبويون المزايدون أبطالا أوفياء للتنظيم أو الأيديولوجيا، حتى وإن لم يكن لهم من عطاء أو إنجاز سوى التصفيق والتهليل لكل سلوك حزبي وتنظيمي، بغض النظر عن خطئه أو صوابه، أو التشويه والشتم، لكل من تسوّل له نفسه إعمال عقله، وَتَفْعيلَ بصيرته لخدمة المشروع الحزبي نفسه أو الأيديولوجي.
باختصار، لا يمكن أن تأتي الشعبوية بخير أينما وجدت وحلَّت، بل هي الفجوة التي يتسلل منها الطغيان والجهل والكوارث. ومن يتوسّلون الشعبوية منهجا إنما يفعلون ذلك خدمة لمصالح ذاتية ضيقة، أما الجماهير التي تتساوق مع خداعهم فما هي في نظرهم إلا جسدٌ يعتاشون عليه كطفيليات.