الشركات العسكرية الروسية... كم فرقة تعدّ مجموعة "فاغنر"؟

الشركات العسكرية الروسية... كم فرقة تعدّ مجموعة "فاغنر"؟

24 ابريل 2020
يقود يفغيني بريغوجين مجموعة "فاغنر" (الأناضول)
+ الخط -

ظهرت الشركات العسكرية الروسية المتورطة في سياق التدخلات العسكرية لموسكو، في أوكرانيا ابتداءً من عام 2014، ثمّ في سورية ابتداءً من عام 2015، وفي الآونة الأخيرة ظهرت في ليبيا وفي كثير من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء. تتركّز الأنظار بصفة خاصة على مجموعة "فاغنر" الغامضة التي يقودها يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، وخصوصاً أنّ هذا الكيان ذا الملامح غير الواضحة، يُنشَر لأغراض مختلفة، وفقاً للوضعيات والبلدان.

انتظم بسرعة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي سوق الأمن الخاص المتمحور حول أنشطة الحراس الشخصيين والحراسة. أما الشركات العسكرية الخاصة، التي تقدم خدمات الحماية في المناطق الحساسة، وإزالة الألغام والتكوين والتدريب، فقد ظهرت فيما بعد مع نهاية عام 2000. تزامن تطور الشركات العسكرية الخاصة في روسيا مع اهتمام متزايد من طرف المجتمع الاستراتيجي الروسي بهذه الظاهرة. فعلى غرار نظيراتها الغربية، سُجِّلَت الشركات العسكرية الروسية ـ نحو 20 ـ كشركات تجارية بسيطة، لكونها لا تتمتع بأي وضع شرعي، ولو كانت إمكانية توفير إطار قانوني لها موضوع نقاش منتظم في روسيا. وقد استعملت هذه الشركات العسكرية خصوصاً في تأمين حركة السفن التجارية في خليج عدن، وفي عمليات إزالة الألغام في البلقان وليبيا، ووظّفتها منظمة الأمم المتحدة في تأمين قوافل اللاجئين في سورية. قانوناً، يحظر نشاط المرتزقة في روسيا، كما تنصّ عليه المادة الـ 359 من قانون العقوبات الروسي.

القبعات المتعددة ليفغيني بريغوجين

المفارقة أنّ الاهتمام الموجه خلال السنوات الأخيرة لدور الشركات العسكرية الخاصة الروسية في سورية وليبيا وأماكن أخرى، لا يتعلق كثيراً بهذه الشركات العسكرية الخاصة التقليدية المذكورة أعلاه، بقدر ما يخصّ كيانات أخرى، وعلى وجه الخصوص مجموعة "فاغنر" التي ليس لها صفة تجارية محددة، ولا حتى وجود قانوني.

تبدو مجموعة "فاغنر"، بعد سنوات على ظهورها، أنها تتشكّل أساساً من مجموعات من المرتزقة الروس المجندين خصوصاً لخدمة رجل، هو يفغيني بريغوجين، الذي يتعين اعتباره "تابعاً مخلصاً" للكرملين، أكثر من كونه رب عمل.

بريغوجين الذي حقق ثروته في التسعينيات من وجبات الطعام السريع، رجل أعمال مقرب من بوتين، وتنظّم شركاته - على وجه الخصوص - المآدب والمناسبات للرئاسة الروسية. وقد وُضع على قائمة العقوبات الأميركية، إذ تتهمه واشنطن بالمشاركة عبر العديد من شركاته في مناورات للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، بقصد التأثير فيها.

تعدّ درجة التداخل بين مجموعة "فاغنر" والقوات المسلحة الروسية أكبر بكثير من تلك القائمة مع الشركات العسكرية الخاصة التقليدية. يوجد في صفوف هذه الأخيرة العديد من الجنود الروس المتقاعدين الذين يتمتعون بكفاءات عملياتية اكتسبوها خلال مختلف العمليات المسلحة التي قامت بها موسكو في أفغانستان وطاجكستان وشمال القوقاز على سبيل المثال. بينما يختلف النموذج بالنسبة إلى "فاغنر"، إذ أظهرت مختلف التحقيقات التي نُشرَت في الصحافة الاستقصائية الروسية، مثل صحف "ميدوزا" و"فونتاكا" أو "نوفايا غازيتا"، أنّ أغلب العاملين المجندين من طرف هذا الهيكل كُوِّنوا ودُرِّبوا في قاعدة عسكرية توجد في مولكينو (جنوب غرب روسيا)، في منطقة كراسنودار، التابعة للواء العاشر للمديرية العامة للأمن العسكري الروسي. وأظهرت التحقيقات أنّ معداتهم أُخذت من فائض الجيش الروسي.

يعود الفرق الأساسي بين مجموعة "فاغنر" والشركات العسكرية الخاصة التقليدية، إلى أن الأولى شاركت في سورية وليبيا على نحو الخصوص، في عمليات مسلحة مختلفة، فيما لم تقم الأخيرة بأي نشاطات قتالية. ويبدو من خلال ذلك، أنّ مجموعة "فاغنر" تؤدي دور المكمّل البديل الذي يسمح لموسكو بالمشاركة في عمليات عسكرية من دون الحاجة للزجّ بقواتها العسكرية النظامية، وبالتالي من دون أن تكون مضطرة إلى تبرير تورطها. هذه الطريقة في العمل، المسماة "الإنكار المقبول" (plausible deniability) استعملت بصفة متكررة في مختلف العمليات المسلحة التي تورط فيها الاتحاد الروسي.

 

"الرجال الخضر الصغار" يصعدون إلى الجبهة

في أوائل التسعينيات، خلال النزاعات الانفصالية في مولدافيا وجورجيا، قدّمت موسكو دعماً عسكرياً حاسماً للانفصاليين الترانسنيستريين والأبخاز والأوسيتيين الجنوبيين ضدّ سلطتي تشيسيناو وتبيليسي، من دون أن تشارك رسمياً في هذه النزاعات. وتعدّ عملية ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، مثالاً آخر للإنكار المقبول، حيث تكفّل بالعمليات التي أدت إلى هذا المسار "رجال خضر صغار"، هؤلاء الجنود الذين لا علامة تدلّ على انتمائهم، والذين كان بوتين يؤكد أنهم عناصر من "قوى الدفاع الذاتي المحلي"، ويمكن أن تجد بزاتهم في أيّ متجر للفائض العسكري.

لقد كانوا في الواقع أعضاءً من وحدات النخبة للقوات المسلحة الروسية، وعلى وجه الخصوص من القوات الخاصة لمديرية المخابرات الروسية ومن القيادة السرية جداً للعمليات الخاصة التي أُنشئت عام 2013. لتؤدي هذه الأخيرة فيما بعد دوراً حاسماً في العمليات العسكرية الروسية في سورية.

النزاع المسلح الدائر في دونباس شرقي أوكرانيا، منذ ربيع عام 2014، مثال آخر على هذا "الإنكار المقبول". وإذا كان معظم المقاتلين الانفصاليين البالغ عددهم 35000، هم بالفعل مواطنون أوكرانيون، فهم مكوَّنون ومؤطَّرون ومدرَّبون من قِبل 3000 رجل من عناصر القوات المسلحة والمخابرات الروسية، وفقاً لمعطيات نُشرت في تقرير "الميزان العسكري 2020"، وجمعها "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية".

قد يكون من المغري تعريف مجموعة "فاغنر" بأنها مجرّد أداة في خدمة هذا "الإنكار المقبول"، تحت رقابة الكرملين، إذ تتيح هذه المجموعة لموسكو إمكانية التدخل أينما شاءت، من دون تحمّل التكاليف المترتبة عن ذلك. لكنّ هذه النظرة لا تعكس ظاهرة "فاغنر" إلا بطريقة جزئية، كما تشير إلى ذلك أهم العمليات التي شارك فيها هذا الكيان.

 

الفشل الذريع للفيلق السلافي في سورية

يعود أصل "فاغنر" إلى عام 2013، عندما شارك الفيلق السلافي، وهو فرع مسجل في هونغ كونغ لمجموعة موران للأمن - وهي شركة روسية عسكرية خاصة - للمرة الأولى في عمليات عسكرية في إطار النزاع السوري. إذ أُرسل ما يقارب 270 من أفراد الفيلق السلافي، المجندين أصلاً لمراقبة حقول النفط لحساب النظام السوري في منطقة دير الزور، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، لدعم مجموعات موالية للحكومة في مدينة السخنة، بريف حمص، كانت تتعرض لهجوم المتمردين. ومُنيت هذه المغامرة بإخفاق ذريع، حيث هلك كثير من أعضاء الفيلق السلافي في هذه العملية، وعند عودتهم إلى بلادهم اعتقل جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) اثنين من قادة الفيلق، هما فاديم غوساف، ويبغينيج سيدوروف. وأكد الحكم عليهما في أكتوبر 2014 بالسجن لسنوات عدة بتهمة الارتزاق، فكرة أنّ العملية لم تُقَرّ في الكرملين، ولم تحظَ بموافقته. وكانت تلك المرة الأولى التي ينطق فيها بمثل هذا الحكم في روسيا. هذا ما يؤكده أوليغ كرينيتيسين، مدير مجموعة "آر. إس. بى"، أهم شركة عسكرية خاصة روسية، إذ صرّح في حوار مع صحيفة "فونتاكا" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، بأنّ متاعب الفيلق السلافي في سورية تعود إلى مغامرة متهورة مطلقة ومبادرة خاصة من دون استشارة السلطات الروسية.

 

"فاغنر" في معارك تدمر

تشكلت "فاغنر" إلى جانب الانفصاليين الموالين لروسيا في دونباس، وتمّ ذلك حول شخصية دميتري يتكين، عقيد الاحتياط في مديرية المخابرات الرئيسية الروسية الذي شارك في مغامرة الفيلق السلافي. وصلت "فاغنر" إلى الساحة السورية في عام 2016، وهي الفترة التي تتوافق مع وضع يد يفغيني بريغوجين عليها.

وبرزت المجموعة بمشاركتها من خلال مئات من عناصرها في معركتين لاسترجاع تدمر في مارس/ آذار 2016 ومارس 2017، وذلك بتلاحم وثيق مع القوات المسلحة الروسية، الطيران ووحدات قيادة العمليات الخاصة، وأيضاً القوات السورية. وفّرت "فاغنر" حضوراً قوياً على الأرض، كانت القيادة العسكرية الروسية في سورية تفتقده، لأن التدخل الروسي كان جوياً في الأساس منذ البداية.

وبما أنّ روسيا تتبنى كلياً تدخلها في سورية، الذي جاء في إطار اتفاقية التعاون العسكري الموقعة عام 1980 بين موسكو ودمشق، فإنّ اللجوء إلى "فاغنر" في معركة تدمر لا يدخل في إطار مبدأ "الإنكار المقبول". لم تكن موسكو تهدف إلى إخفاء تدخلها باللجوء إلى "فاغنر" خلال معركتي تدمر، بل كانت الغاية تفادي اللجوء إلى عناصر القوات المسلحة النظامية، الذين يصعب تبرير مقتلهم لدى المواطنين الروس. اللجوء إلى "فاغنر" في هذه الحالة يدخل ضمن تحديات عملياتية بالنسبة إلى القيادة الروسية.

العملية الأخرى التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وشاركت فيها "فاغنر"، محاولة استرجاع -  لحساب دمشق في فبراير/ شباط 2018 - حقول النفط التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" في منطقة دير الزور. ومُنيت هذه العملية بالفشل، وقتل فيها العشرات من عناصر "فاغنر" من الذين شاركوا في العمليات.

في هذه الحالة، لا يعود اللجوء إلى "فاغنر" إلى رهانات عملياتية بالنسبة إلى موسكو، بل إلى منطق تعاقدي بين "فاغنر" وفاعل محلي، أي بناءً على عقد بين الشركة السورية للنفط "جنرال بتروليوم كوربورايشن"، وهي شركة عمومية سورية تتكفل باستغلال البترول والغاز من جهة، و"إيفرو بوليس"، إحدى الشركات التي يمتلكها يفغيني بريغوجين من جهة أخرى. بموجب هذا العقد، كان من المفترض أن تتحصّل "إيفرو بوليس" على 25 في المائة من عائدات المحروقات، مقابل حمايتها.

ويبدو من نتيجة العملية، أنها لم تجرِ بالتنسيق الوطيد مع القيادة العسكرية الروسية في سورية، ما يطرح مسألة درجة السيطرة الحقيقية لقيادة الأركان الروسية، وفي آخر المطاف للحكومة الروسية، على "فاغنر".

المشاركة في هجمات حفتر في ليبيا

جاء وصول بريغوجين وهياكله إلى ليبيا في أعقاب لقاء نُظِّم في موسكو في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، بين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ووفد من كبار المسؤولين العسكريين الليبيين بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وقد شارك بريغوجين في هذا اللقاء. ولفهم وصول هذا الأخير إلى المسرح الليبي، يجب التذكير أولاً بأنّ دور موسكو في هذا الملف محدود جداً، مقارنةً بالجبهة السورية. فعلى عكس ما هو حاصل في سورية، ليس هناك وجود عسكري روسي كبير في ليبيا. فاستثمار موسكو في حلّ الأزمة الليبية يرتكز أساساً على تنفيذ دبلوماسية موازية عبر القناة الشيشانية، أو من خلال رجل الأعمال ليف دينغوف، رئيس مجموعة الاتصال الروسية حول ليبيا ورئيس غرفة التجارة الروسية الليبية التي أُنشئت عام 2017.

وإذا كانت موسكو تدعم رسمياً على السواء، حكومة فائز السراج في طرابلس، وحفتر، فإنّ هذا الأخير يحظى بتفضيل لدى الكرملين. ولكنه دعم من بين دعم آخرين لرجل طبرق القوي، وفي مقدمة هؤلاء مصر والمملكة العربية السعودية.

شارك مقاتلو "فاغنر" في الهجمات التي شنّها حفتر في ربيع وخريف 2019، في محاولة الاستيلاء على طرابلس، كما أظهرت تحاليل فريق "كونفليكت انتلجنس تايم" لمجموعة من المدونين الروس، وهو فريق أنشئ أصلاً في عام 2014 لتوثيق التدخل العسكري الروسي في دونباس ولإدانته.

هناك اختلاف في تقدير عدد عناصر "فاغنر" الذين شاركوا إلى جانب "الجيش الوطني" التابع لحفتر. تتكلم الصحافة الاستقصائية الروسية عن بعض مئات من المقاتلين، فيما ندد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في ديسمبر 2019، بوجود 2000 مرتزق روسي. ويبدو أنّ الحقيقة أقرب إلى التقدير الأول. ومهما يكن، فإنّ وجود المقاتلين الروس في ليبيا ـ المعترف به ضمناً من طرف فلاديمير بوتين عندما صرّح في يناير/ كانون الثاني الماضي بأنه "إذا كان هناك مواطنون روس موجودون، فإنهم لا يمثلون مصالح الدولة الروسية، ولا يتلقون أموالاً من الدولة الروسية" ـ لم يكن ولن يكون ممكناً أن يكون له دور حاسم في مشروع حفتر.

أداة في خدمة الفرص

يمكن تقديم تفسيرات عدة في موضوع "فاغنر" في ليبيا. من الممكن أن تكون موسكو قد سهّلت وصول المرتزقة إلى ليبيا ـ مع العلم بأن هذا الوجود لن يكون أبداً حاسماً على الأرض ـ حتى تكون قادرة على رفع المزايدات على الجبهة الدبلوماسية والمطالبة بأداء دور أكبر في الملف الليبي. وقد حصل ذلك.

في بداية يناير 2020، أطلقت موسكو وأنقرة مبادرة مشتركة لوقف إطلاق النار في ليبيا، وبعد ذلك انتظمت قمة شارك فيها كل من السراج وحفتر في موسكو. وشارك فلاديمير بوتين في المؤتمر الدولي حول ليبيا الذي نُظِّم في برلين يوم 20 يناير. وقد يكون عناصر "فاغنر" قد انسحبوا من مناطق القتال بعد انطلاق الحوار الروسي التركي.

من الممكن أيضاً، وهذا تفسير يتكامل مع التفسير السابق، أن يكون الكرملين قد سمح لبريغوجين ببيع خدماته للجنرال حفتر، ما دام ذلك لا يغيّر بصفة أساسية موازين القوى على الأرض. توجد الحقول النفطية الليبية أساساً في المناطق التي يسيطر عليها حفتر، وهناك فرضية محتملة بوجود اتفاق، صدّق عليه الكرملين، بين حكومة طبرق وبريغوجين، ينصّ على أنه مقابل دعم بالمقاتلين في الهجوم على طرابلس، سيتمكن رجل الأعمال الروسي من الوصول إلى صفقة تأمين مواقع المحروقات. وهو النموذج الذي ترتكز عليه نشاطات بريغوجين في سورية.

بعد سنوات من ظهور مجموعة "فاغنر" في دونباس، وتقويتها على الأرض السورية، لا يزال تعريف هذا الكيان محلّ إشكال. فاعتبار المجموعة مجرّد شركة عسكرية خاصة، يعدّ اختزالاً لها، ولكن في المقابل تصنيفها كأداة جديدة بين يدي الكرملين مضلّل أيضاً، لأن ذلك يوحي بأنّ "فاغنر" هيكل منظّم ومستديم تكون للسلطة التنفيذية اليد الكاملة عليه، وذلك ليس صحيحاً.

تتميز "فاغنر" بتشابك المصالح الخاصة لبريغوجين، وأحياناً وليس دائماً، مع الأهداف العملياتية أو الدبلوماسية لموسكو. ولكن يجب اعتبارها وسيلة تسهّل بعض الفرص في ميدان ما، وليست أداة جديدة لاستراتيجية كبيرة.

ينشر بالتزامن مع

https://orientxxi.info/ar

المساهمون