الشرق الأوسط بين صفقة ومشروع القرن

الشرق الأوسط بين صفقة ومشروع القرن

09 يوليو 2017

ترامب والملك سلمان في الرياض..إلى نظام عالمي جديد (20/5/2017/الأناضول)

+ الخط -
عندما كتب ابن خلدون مقدمته، علل ذلك بقول "إذا ما تبدلت الأحول بالجملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم وكأنه ولد من جديد". ستكون هذه الولادة عسيرة، لأن كل الأزمات التي نعيشها لن تعبِّر عن فوضى تسود العالم كما نعتقد، بل عن قوىً فاعلة قادرة على إخراج العالم من طورٍ إلى طور آخر. كل تصوّر جزئي لما يحدث في المنطقة لا يستصحب هذه التغيرات سيكون فعلاً منبتاً عن رحم التاريخ، بعيداً عن أي استراتيجية حقيقية، يحجز معها الفاعل السياسي مقعده للمستقبل، من دون أن يسترقّ السمع، هذا ما عبر عنه الفيلسوف، توماس كون، بقوله تحول البارادايم أو النموذج الحاكم.
وبشأن صفقة سميت صفقة القرن، وهو مسمى له تاريخ طويل في المنطقة، أي الصفقة التي أبرمها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والمملكة العربية السعودية. وفي المقابل، نجد مشروعاً كبيراً آخر سمي مشروع القرن، هو مشروع إعادة طريق الحرير الذي أطلقته الصين أخيرا. وبتتبع المسارين، سنعرف أن هذه القوى تتدافع من أجل رسم خارطة المنطقة، وأن هذه التغيرات الكبرى ستحتاج قراءة متأنية، ليس للتصريحات والنيات، بل لفهم مسار التاريخ بين منطق القوى والجيواستراتيجيا الأميركية ومنطق الشبكات للصين ودول جنوب شرق آسيا، بين لعبة الشطرنج ولعبة (Go) الصينية، اللعبة التي تعبر عن القدرة على التشابك والإحاطة بدل استراتيجيات الردع والاحتواء وموازين القوى.

نظرية اللعبة والهارموني
صدر، أخيرا، كتاب رقعة الشطرنج والشبكة "استراتيجيات التواصل في عالم متشابك" للكاتبة أنّا ماري سولتير، وهي مستشارة ودبلوماسية في فترة الرئيس الأميركي، باراك أوباما
(مارس/ آذار 2017). تبين فيه تأثير مفهوم الشبكات على العلاقات الدولية، وتؤكد أن صناعة القرار في أميركا ترتبط بمفهوم القوة والردع ونظرية اللعبة، وليس بوجود استراتيجية للتواصل عبر الشبكات المختلفة التجارية والتقنية والمعرفية. تحاول نظرية اللعبة التي سادت العلاقات الدولية حيناً أن تتوقع سلوك الطرف الآخر، بناء على موازين القوى بين الطرفين والظروف المحيطة به، لكن جنوب شرق آسيا، وخصوصا الصين، جاءت بمفهوم الشبكة الذي أصّل له الآسيويون بكونفوشيوس، وتوزّع الحقيقة داخل المجتمع والعالم بما يعرف بالهارموني، وإمكانية الانسجام عبر تعدّد الآراء، وعبر التواصل البناء، قد فتح أمام العالم طريقاً لنماذج حاكمة جديدة منها: الحكم الرشيد والتشابك في العلاقات الدولية، بناء على التواصل مع الشعوب والأمم الأخرى، بعيداً عن مفهوم (الإمبراطورية) الذي تحولت له الولايات المتحدة الأميركية منذ السبعينيات، حيث ظهر جلياً أن محاولة الولايات المتحدة لعب دور شرطي العالم والقائد قد كلفها كثيرا، وأفقدها الرؤية الاستراتيجية، خصوصا في ما يتعلق بالتواصل مع الشبكات التي تنتشر عبر العالم. وهذا ما قاله رئيس أركان الجيش الأميركي، الجنرال مارتن ديمبسي، (قبل أن يترك منصبه في ديسمبر/ كانون الأول 2012) لمجلة "فورين أفيرز" العدد 95. وتوضح أنا ماري، في كتابها، أن الصين ودولا عديدة تصدر تقارير عن استراتيجيتها للتعامل مع الشبكات العالمية، وتفعل ذلك دول عديدة، فيما يصرّ الفاعل السياسي الأميركي على الاتكاء على نظريات القوة وحساب التوازنات، وهذا ما جعل السياسة الاستراتيجية الأميركية تفقد مبادرات مهمة كثيرة، في القرن العشرين وخلال الربيع العربي وما بعد الربيع العربي.
يمكننا أن نميّز بين المسار الذي يعتمد على القوة وتوازناتها وبين قوة التواصل عبر الشبكات العالمية، من خلال استراتيجيا واضحة، في مقارنة صفقة القرن الأميركية مع المملكة السعودية ومشروع القرن الصيني مع دول العالم، وتأثير مآل المسارين على المنطقتين، العربية والإسلامية.

صفقة القرن
تتضمن صفقة القرن، الاسم الذي أطلقه المعلق في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، أمير أورون، وتبعه في ذلك الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة السعودية، مجالات كثيرة، تدعم القوة الاستراتيجية للمملكة السعودية في مواجهة القوة
العسكرية، خصوصا منظومة الصواريخ الباليستية، للجمهورية الإيرانية. تتضمن هذه الصفقة عدة مجالات، هي الدفاع الجوي الصاروخي، حماية الحدود ومكافحة الإرهاب، الدفاعات البحرية حماية السواحل، تقنيات الاتصال والأمن الإلكتروني، كما ذكر وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون الذي أوضح أن الاتفاقية ستضمن للسعودية مواجهة الخطر الإيراني في المنطقة، خصوصا أن ضمن الاتفاقية منظومات دفاعية ضد الصواريخ الباليستية التي تمتلك إيران منها ترسانةً هي الأكبر في المنطقة. تبلغ قيمة الصفقة 380 مليار دولار، أكثر من مائة ناجزة، والباقي يدفع آجلاً في فترة تصل إلى عشر سنوات. وتتضمن الاتفاقية الوصول إلى اتفاق في القضية الفلسطينية، يذكر بعضهم تحديد أراض للسلطة الفلسطينية من الجانب الإسرائيلي، تكون هي الدولة الفلسطينية، وتتضمن تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، تمهيداً لجعل الممرات المائية فيها دوليةً، في مقابل إعطاء الساحل الشرقي من البحر الأحمر للدولة المصرية. ما يُراد تأكيده، هنا في هذا السياق، استراتيجية الردع والاحتواء ومنطلق القوة الذي ينعكس في جوانب الاتفاق، سواء من الولايات المتحدة أو السعودية، وتجلي ذلك في عدة جوانب.
الأول: ما نقل عن أكثر من مصدر في الكونغرس من رغبة الرئيس ترامب تشكيل تكتل من إسرائيل والدول التي وصفت بالمعتدلة في المنطقة، يشبه حلف شمال الأطلسي (الناتو) للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وقد فوجئ مراقبون كثيرون من السهولة التي توافق فيها الزعماء العرب على التطبيع مع إسرائيل.
الثاني: ردع إيران، ويتجلى ذلك في ما نشرته "نيويورك تايمز" عن عرض الولايات المتحدة الأميركية على السعودية شراء منظومة رادار متطورة لمواجهة الصواريخ الباليستية (THAAD) ، ذلك لردع إيران، لكن واجهت الصفقة إشكالية السعر. وهنا، تدخل كوشنر صهر الرئيس ترامب، ورفع هاتفه، واتصل بالمدير التنفيذي لشركة لوكهيد مارتن، لطلب تخفيض السعر لصالح المملكة، الأمر الذي وافقت عليه الشركة، وتمت صفقة القرن.
الثالث: الأسلحة التي تعاقدت عليها المملكة هل ستشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل؟ وقد تحفظت الصحافة الإسرائيلية، في البداية، على صفقة القرن، لكن تصريحات المسؤولين في دولة الكيان بدت أكثر تفهما للبعد الاستراتيجي للاتفاق، خصوصا أن الأسلحة التي اتفق على التعاقد لشرائها لا يمكنها أن تصل إلى إسرائيل، فمنظومة (THAAD) لمواجهة الصواريخ الباليستية لا يمكنها أن تصل إلى إسرائيل، كما أن طائرات الهليكوبتر بلاك هاوك Black Hawk تعرف الدفاعات الإسرائيلية كيف تتعامل معها. ونشأ تخوف آخر، في هذا السياق، وهو إمكانية انتقال هذه الأسلحة إلى أعداء إسرائيل، وهو احتمال ضعيف، في ظل التغيرات التي تشهدها المملكة. هذا ما نشرته "هآرتس"، في 24 مايو/ أيار 2017.
تؤكد هذه الجوانب رغبة الولايات المتحدة والمملكة وإسرائيل بتشكيل تلك الجبهة العسكرية القادرة على مواجهة إيران، والحفاظ على المنطقة بتقوية قدراتها الدفاعية، ونقل سردية الصراع الفلسطيني من صراع الحدود وقضية الاحتلال وبعدها الحضاري المتمثل في المسجد الأقصى إلى سياق آخر جيواستراتيجي، يرتبط بمنطق القوة والسيطرة، كما هي النظرية الكلاسيكية للعلاقات الدولية. في المقابل، سنشهد تطورا آخر في المنطقة، يبتعد كثيرا عن هذا المنطق، وهذا هو مشروع القرن.

مشروع القرن
أعلن الرئيس الصيني، جي بينغ، في سبتمبر/ أيلول 2013، عن مبادرته إنشاء طريق حرير جديد، وهو المشروع الذي عرف اختصاراً OBOR، ويعني "حزام واحد وطريق واحد"، وفي فلسفة المشروع، نقرأ عن إعادة روح طريق الحرير، وتعني "السلام، والتعاون،
والمشاركة، وتبادل المعرفة، وتبادل المنفعة". ورد ذلك في التقرير الذي نشر عام 2015، وهو بيان لخطة تنفيذ المشروع الذي قد تصل كلفته إلى 900 مليار دولار، وصف بأنه مشروع القرن، ويعبر، حسب الوثيقة، عن عهدٍ جديد من العولمة، يستفيد منه الجميع. سيعيد المشروع طريق الحرير التاريخية للربط بين آسيا وأوروبا، للعبور عبر أفريقيا، بشبكة متكاملة تربط بين آسيا وأوروبا وآسيا وأفريقيا. المشروع طموح، وستشارك فيه 68 دولة، كما أنه يشمل طرقاً بحرية وأخرى برية، ما يسمح بتنمية البنية التحتية لدولٍ كثيرةٍ يمرّ فيها. وستتكفل الصين، في هذه المرحلة، بحوالي أربعين ملياراً، بينما يقوم البنك الآسيوي للبنية التحتية والاستثمار الذي أسس في يونيو/ حزيران عام 2015 (بمشاركة 49 دولة) بتقديم مليارات الدولارات، وتقدّر ميزانيته بمائة مليار دولار.
يرى بعضهم هذا المشروع خيالاً، ويشكك آخرون في نيات الصين نحو التعاون، إلا أنه يحمل بعداً أعمق، وهو الانتقال نحو "قوة التواصل"، بدلاً من منطق القوة. لذا، وقفت الولايات المتحدة ضد بنك آسيا للبنية التحتية، واعتبرته تهديداً لها، وحاولت الحيلولة دون إقامته، بل حاول الرئيس أوباما أن يزيد من مشاركة الصين في البنك الدولي، مقابل التخلي عن هذا المشروع من دون جدوى، وسرعان ما باركت دول أوروبية المشروع، وشاركت فيه، كالمملكة المتحدة وإيطاليا ودول أوروبية أخرى. وقد انتبه مراقبون كثيرون إلى تلك الخطوة التي تعبر عن المشاركة والتشابك لمواجهة النظام العالمي. وهكذا أخذ المشروع بعداً استراتيجياً جعله بحق مشروع القرن.

قصة دولتين
يمكن ملاحظة هذا الفرق في النظر إلى العالم بمنطق الهيراركي والقوة، ومنطق التواصل والشبكات في ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي، في أزمة الخليج مثلا، بين شبكة المنصات الإعلامية والعلاقات والدبلوماسية والاستثمار والتجارة بين دول العالم ودولة قطر ، وبين محاولة الدخول في مغامرات جيواستراتيجية وعسكرية في اليمن وليبيا من دولة الإمارات بالتعاون مع مصر، تماما كما كان يفكر جمال عبد الناصر في مصر وأحمد بن بله في الجزائر ومعمر القذافي وأعضاء حزب البعث. يمكن أن نلحظ مثلاً كيف تفاعلت شبكات عالمية تعنى بحقوق الإنسان وحرية الصحافة في أزمة الخليج، وكيف استخدمت الدول المحاصرة منطق القوة، بالاستمرار في المقاطعة والتلويح بالمزيد، بل بالاستمرار في إطالة أمد الصراع في ليبيا، وكذلك عدم التوقف لتبصر أحوال أكثر من مائتي ألف مصاب بالكوليرا في اليمن. يمكن أن نستحضر كذلك الربيع العربي، شبكة امتدت في العالم العربي، من أجل التغيير، وكيف واجهتها السعودية ودولة الإمارات عبر الانقلابات العسكرية وماكنة إعلامية لنشر سرديةٍ، تمنع تكوين تلك الشبكات من جديد.
لا يعني منطق التواصل والشبكات الإعلام فقط، بل أيضا وجود رؤية تتواصل مع الناس
والمجتمعات، من أجل المشاركة والتنمية والبناء، في ظل احترام خصوصية الناس وثقافتهم. وهذا منطق غريب تماماً عن النظام الليبرالي، المرتبط بالتنافس والصراع وتوازن القوى.
لا يمكن للشرق الأوسط أن يستمر بهذا المنوال، لأن الجهد الذي تقوم به العربية السعودية لقيادة المنطقة لا يصل إلى عمق الإشكالات التي تعانيها الدول العربية، فلا ضمان بأن شبكة تنظيم الدولة الإسلامية ستنتهي من العالم بعد الموصل، أو من خلال محاربتها في سورية وسيناء وليبيا، بل إنها يمكن أن تنتقل بسهولة إلى مناطق قروية ونائية، وتبدأ عملها من خلالها. ويمكن مقاربة ذلك بما حدث لحركة طالبان في أفغانستان، فقد أعادت تنظيم نفسها وعادت إلى المشهد. وبشأن الجهود لإخماد الربيع العربي، لا يوجد ضمان يمنع تكوين شبكات جديدة، والخروج في الساحات من جديد في سياقات تاريخية أخرى، غير التي ظهرت فيها الموجة الثورية السابقة. كما أن إخماد صوت "الجزيرة" قناة رائدة في المنطقة، لا يمكن أن يعني أن سردية المملكة والإمارات ستنتصر، فهناك عشرات من الخبرات والنماذج المعرفية التي انتشرت عبر "الجزيرة"، وقنوات كثيرة عرفت النماذج المعرفية التي بنيت بها الجزيرة.
ما تحتاجه المنطقة ليس مزيداً من استخدام القوة، والبحث عن شركاء من خارجها لإخماد حرائقها، بل تحتاج نظاما ينظم العلاقة بين هذه الدول، من دون البحث عن مركزية تلك الدول، وحجم اقتصادها وتأثيرها. نظام يحترم سيادة الدول، مهما كان وزنها، وهذا لن يحدث إلا بمبادراتٍ من شخصيات فاعلة، كالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أو الرئيس الإيراني حسن روحاني، أو ملك المغرب محمد السادس، والباجي قائد السبسي من تونس، وكذلك الشخصيات والعلماء والمفكرون، أن يجتمعوا لوضع حد لهذا النظام المهترئ الذي أسس بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى كل الدول العربية الفاعلة، كالمغرب والجزائر والكويت، أن تضع استراتيجيات وسياسات واضحة، لأن تكون جزءاً من المشهد، بأن تسهم في إيضاح أن هذه الأمة لم تولد قبل سنين، بل لها حدود حضارية، يصعب تجاوزها، مهما كانت سرديات ما بعد حداثية، تهدم البناء الذي تراكم عبر التاريخ، فأزمة الخليج أوجدت سرديةً، لا يمكن لهذه الدول أن تصمت عنها، أو آن تتعامل معها بمنطق عدم التدخل في شؤون الآخرين، فنحن في عالمٍ مترابطٍ، يعيش بمنطق الوصل لا الفصل. لذا، لن يتحاوز منطق القوة تلك الروابط التي رسمت سرديةً عاشت عبر السنين، عنوانها فلسطين، ونحن أمة لها تاريخ وحضارة، هذا صعبٌ أن يتغير بمنطق القوة، بل بالمنطق نفسه الذي نشأت به هذه السردية، الفكر والحضارة والتواصل، وهذا ما يفقده الحالمون بالتطبيع.