الشدياق صورة الروح الكريمة

الشدياق صورة الروح الكريمة

13 ابريل 2015
+ الخط -
شغفٌ وولعٌ وولَه، هي الكلمات التي يستعملها الدكتور فواز طرابلسي، ضيف ملحق الثقافة، ما أن يرد ذكر النهضوي اللامع أحمد فارس الشدياق.
لاحظ الكاتب البريطاني تيم باركس في واحد من مقالاته اللامعة، ميل كتّاب السيرة (سير الأدباء) إلى تمويه أثر حوادث معينة و"تلطيف" طباع غير ممدوحة، وتبرير "موبقات" شخصية في تلك السير، باعتبارها قد تسيء إلى "صورة" الكاتب مثلما ترسّخت في مخيلة القرّاء والمعجبين بكتاباتهم. إذ جهدت ديم هيرميون لي، كاتبة سيرة فيرجينيا وولف، في تبرير "توقيت" انتحارها. ففي ظنّها أن وولف أبدت شجاعة في ألا تنتحر قبل ذلك بسنوات، رغم وقوعها تحت وطأة اكتئاب نفسي حاد، وأنها "صمدت" خلال تلك السنوات، عبر "توجيه" طاقة الشجاعة هذه نحو الكتابة. وأن الأمر في جملته، يصبّ أيضًا في "تحرير المرأة" و"تعزيز الثقافة".

الظنّ أن السير الذاتية أو سير الأدباء تميل عمومًا إلى ابتكار "صورة" معقّمة للكاتب لو صحّ التعبير، على نحو تبدو فيه حياته الشخصية مفارقةً لحياته الأدبية أو الكتابية، خلا ما يخدم صورة الكاتب عن نفسه، أو صورة كاتب سيرته عنه. ونتيجةً لذلك تشعّ صورة الكاتب، وتتزيّن "عفويًا" بهالة قمرية، تجعل الكاتب أدنى إلى القديس. مع ذلك ثمّة كتّاب ذوو "روح كريمة" غير هيابة في أن تواجه "بشريتها" وطباعها الشخصية ومصاعبها في حياة عادةً ما تكون ممتلئة بالمشاكل والمآسي والتحدّيات التي هي في النهاية ما يقدح زناد الكتابة ويؤلف قوتها ولبّها.

ولعلّ أحمد فارس الشدياق واحد من هؤلاء أصحاب الروح الكريمة. ففي كتابه الممتع والصعب والمفيد "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، لم يتورع الشدياق الكريم عن المزج بين أمور ثلاثة، ربّما كانت في نهاية المطاف وراء صعوبة تصنيفه بين أوّل رواية عربية أو أوّل سيرة ذاتية: - تضمين الكتاب "عمل" الشدياق باعتباره لغويًا من طراز استثنائي، إذ فيه صفحات كثيرة يمكن اقتطاعها وإلحاقها بقواميس مجنّسة، من حيث هي تجمع كلمات تنتمي لحقل دلالي واحد أو من تلك المختصّة بأنواع "أشياء" بعينها، كالصفحات الخاصّة بأسماء الحلي وأجناسها مثلًا.

و"الساق على الساق" كاشفٌ لعصر الشدياق بعين نقدية لاذعة خاصّة تلك الموجهة صوب الكنيسة ورجالاتها، من قساوسة وبطاركة ورهبان، يخلع عنهم أحمد فارس كلّ قدسية ويقرّبهم إلى البشر ونزواتهم، ويزيل تلك الغشاوة الخادعة التي تعطي تصرفاتهم تبريرًا دينيًا لا يجوز ردّه، وذلك من خلال معايشتهم والحوار المباشر معهم. أمّا الأمر الثالث والأهم، فهو كتابة السيرة الذاتية بأسلوب مليء بالتورية، كثير الغمز، متواتر الإشارة- وهذا صحيح ومردّه الأسلوب الخاصّ للشدياق- لكن من دون أي خوف أو وجلٍ من القارئ وأحكامه المسبّقة الجاهزة. كذا يمكن قراءة محاوراته الشيقة مع زوجته "الفارياقة"، حيث تظهر فيها ندّا له، الأمر الذي أظهر انسجامًا كبيرًا بين أفكار الشدياق عن تحرير المرأة وسلوكه اليومي مع زوجته. فملاحظاتها وكلامها ورأيها في كلّ ما تراه من حولها من أمور جديدة جرّاء التنقل والسفر، وكذلك رأيها في طباع البشر والمتزوجين، مبثوثة كلّها في ثنايا "الساق على الساق" بأسلوبٍ مباشرٍ لا يوارب بل يذهب رأسًا إلى غايته وقصده، بعيدًا من الاستعارة وأحابيل البلاغة التي يطفح الكتاب بها. هذا التمايز بين الأسلوبين أعطى الكتاب نكهته الفريدة التي لا يخفّ ضوؤها مهما مرّ الزمن، ولكنه أيضًا أتاح للشدياق المزج بين المتعة والفائدة والإخبار، في كتاب استثنائي من حيث هو يوثّق السيرة الفكرية والسيرة الذاتية لأحمد فارس في آن معًا. عدا عن أن هذا المزج بين الأسلوبين صيّر "الساق على الساق" في منزلة خاصّة به، من حيث حيّر دارسيه والشغوفين به، فعدّته الروائية رضوى عاشور الرواية العربية الأولى.

زد على هذا، أن "كريم الروح" الشدياق، تباسط مع القارئ من خلال السخرية اللطيفة من نفسه ومن غيره، كمثل ذاك الفصل المعنون "انقلاع الفارياق من الإسكندرية" حيث يدوّن كيف يخطب القسيس الإفرنجي بالعربية: "أيها الكوم كد فات الوكت الآن ولكني أهتب فيكم نهار الأهد الكابل إن شاء الله". فجاء الكتاب على صورة كاتبه البشرية: شغوف بعمله في الكتابة، خفيف الدم، كريم الروح، عالم لغوي، ناقد اجتماعي، رحالة استثنائي، متعدّد الاهتمامات، متخفّف من الأوهام، غير هيّاب من حكم أخلاقي عليه، لا على "صورته"، إذ لم يرسم الشدياق لنفسه "صورة الكاتب" كدأب غيره من المعتنين بصورتهم عنايةً منفّرة، فظهر أكثر حداثة بما لا يقاس من كتّاب، معاصرين ولاحقين، يظنون أنفسهم حداثيين أو معبّرين عن عصرهم من خلال تلك السير الذاتية واقعًا، والأخرى المجازية التي تطلّ برأسها من خلال كتاباتهم الطافحة بضمير الأنا، كاتب لا يقول إلا صورته وقد اعتنى بها حدّ الإملال: أنا وأنا وأنا.

المساهمون