الشبل الملك

الشبل الملك

11 مايو 2018
+ الخط -
كان قلبُ الوالد يعتصرُ ألماً وحزناً كلما استمع إلى كلام شبله (قسورة) عن عدم ارتياحه لما هو عليه كمخلوقٍ مفترسٍ مخيفِ المظهر، قد تلطخت أنيابُ أجداده ومخالِبهم بدماءِ كثيرٍ من حيواناتِ الغابة بدعوى البقاء. كان كلما اشتدَّ عودُه أكثر وتوطَّدَتْ الأواصرُ مع بعض أصدقائه كالأرنبِ والأفعى والسعدان، ازدادتْ آراؤه بهذا الخصوص حِدَّةً وتطرُّفاً.

ذات يوم قرّر أن يصبح نباتياً، وأن يتوقف عن تناول بقايا صيد والده، ففي خضراوات المكان وأشجارِه وثمارِ الغابة وأزهارها ما يقيم به صلبَه ويضمنُ له "البقاء". بعد حين، بدأ يزعجُه "مظهرُه الوحشيُّ العنيف" فهو وإن استطاع قطعَ أشواطٍ في تربية نفسه البريِّة وتهذيبها لتكونَ متحضّرةً رزينة فإنَّ مظهره دائماً ما عمل ضدَّ مُراده، وأطال مسيرة زرعِ الثقة في قلوب الآخرين ممن يأملُ ويعملُ على أن يكون منهم.

بادئ ذي بدءٍ، كان عليه التخلص من كرة الشعر التي غطّت معظمَ جسده مُدبّةً الذعر في قلبِ كلِّ من يواجهه، وباثَّةً أمواجاً من الهيبة تلفُّه حيثما ذهب. ثم أنيابه الحادة، التي سئم من إخفائها كلما ابتسم أو عطس أو تكلم، ولم ينسَ تلك المخالب العاجية المؤنّفة التي وإن لم يستخدمها كثيراً لكنها ما فتئت تؤرِّقُ من حوله من أصدقاء ارتضاهم، تُذَكِّرُهم بحقيقة من هو. كان عليه أيضاً أن يغيّر اسمه، فـ(قسورة) اسمٌ ثقيلٌ على اللسان، ثقيلٌ على الأذن، لا يعطيه القبولَ الذي يريد في قلوب من يحب كما أخبره صحبه. اليوم صار اسمه (سوسو)!

الأرنب والسعدان والأفعى بدورهم أُعجبوا بالمظهر الجديد للشبل الأسد، وفرحوا أيَّما فرح. لم يملك (قسورة) خياراً بخصوص صوته أو كتلته العضلية، فكان عليه أن يقبل بهما على ما هما عليه. كل ذلك كان إرثاً أثقل كاهله، وحتّم عليه أن يكون ما لم يُرِدْ فقرر تغييره. غيّر ما غيّر، وأبقى ما عصي على التغيير، ليظلَّ ناقوساً يعيدُهُ بين الحين والآخر إلى ذكرى أمجادِ أجدادٍ تخلى عنهم، وسراباتِ سلطانٍ وعزٍّ وجاهٍ ما مَلَكَ ثمن المحافظة عليهم، وأصداء دنيا كانت له صاغرة بكل ما فيها، ما أرادها!، لكنَّها غيرَهُ ما أرادت؛ يُطرِبُها زئيره الرَّنان، وعدلُه وسعيُهُ والإتقان، ثم يعود إلى حاله الجديدة، فهو الآن (سوسو) وهو كما أراد أن يكون دوماً.

ذات يومٍ وهو يجوب السهول بحثاً عن بعض الخس ليقتات عليه شاهد السعدان يعتلي مرتفعاً، ويقفز فوقه طرباً جذلان وحوله الأرنب يركض جيئة وذهاباً. اقترب أكثر، وإذ به جسدُ أُمِّهِ اللبؤة قد لدغتها الأفعى فأَرْدَتْها من فورِها، وطفقَ الآخران يلهوان حولَ جسدها وعليه، فامتلأت نفسُ القسورة بالغضبِ العارمِ الذي انفجرَ زمجرةً سُمِعَ صداها عند أطراف الكون، عاد معها شعرُهُ وأنيابُهُ، وعادت مخالبُهُ وعاد اسمُهُ. عادت كلُّها، أقوى مما كانت، وأمضى مما كانت، بكل الهيبة وعلو الشأن ورفعة المكانة، عاد حيث ينتمي وحيث ينبغي له أن يكون.

دلالات

5889A896-6C0A-4450-B4EC-F34B930EFC65
طارق منصور الخليل

طبيب ومتخصص في مجال إدارة وتطوير النظم الصحية.. عامل في المجال الإغاثي والإدارة عن بعد خصوصا في السياق السوري. كاتب ومحلل وباحث.يقول: تعالوا نتعارف.. تعالوا نكون.

مدونات أخرى