الشاب الثمانيني والقادة العجزة

الشاب الثمانيني والقادة العجزة

18 ابريل 2014
+ الخط -
يوشك والدي على بلوغ الثمانين، بل يقف الآن عند عتبتها، كرمحٍ ممشوق، ومن دون أن يتوكأ، إلا على ساقين، مازالتا قويتين، وروحٍ شابة، تتحفز للبقاء في الدنيا، ربع قرن آخر، على ما يقول، مازحاً، كلما جاءت سيرة المرض، أو الموت، على لسان والدتي، وهي التي تهالك جسدها، ولم تعد تقوى على الوقوف، بغير عكاز، على الرغم من أنها تصغره بثماني سنوات.
مناكفته لها تزداد، حين أَكون معهما، في زياراتي القصيرة المتباعدة. ولعله يتوخّى من ذلك، غالباً، استدراجي، ونحن بين جد وهزل، إلى نقاش، عادةً ما يبدأ بإعلان تعاطفي معها، ليدور، من ثم، حول مسؤوليته شخصياً عن شيخوختها، المبكرة إلى حد ما، باعتبار أنه ألقى على كاهلها عبء العناية بعشرة أبناء، بعد الحمل بهم، وولادتهم، على التوالي، وسط ظروف الفقر والفاقة والعوَز، والتي طبعت حياة غالبية الفلسطينيين، في زمني النكبة والنكسة، كما في زمن الثورة.
وإذ يعترف الشاب الثمانيني، للعجوز السبعينية، بفضلها عليه، وبتفانيها في خدمة أسرتها، فإنه سرعان ما ينتقل، كلاعب شطرنج ماهر، إلى هدفه الأهم، من فتح باب النقاش، فيرفع إصبع الاتهام نحو النخب السياسية العربية، الحاكمة والمعارضة، طوال نصف قرنٍ مضى، لأنها "خانت التطلعات الوطنية والقومية التحررية لشعوبها"، بحسب ما يقول، قبل أن يستدرك موضحاً "كنت واحداً من مئات ألوف الشباب العرب الذين ربطوا مصيرهم الشخصي، ومصير عائلاتهم، بقضية فلسطين، وكرّسوا حياتهم لها، على حساب خبز أطفالهم، بينما كانت القيادات السياسية الخائنة، تتاجر بتضحياتنا، وبدم شهدائنا، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، من فشل ذريع، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
أختلف معه، طبعاً، في بعض رأيه، لاسيما اتهامات الخيانة المطلقة، وأتفق في بعضٍ آخر مما يقول، لكن النقاش، في مجمله، يستدعي إلى خاطري تساؤلاتٍ بشأن غياب المراجعات النقدية الجادة، عن سيرة كل القوى السياسية العربية التي تولت السلطة، وكذا التي عارضت، طوال خمسين سنة مضت. ألم يحن الوقت، مثلاً، ومنذ عقود، لتقول لنا أنظمة الحكم المزمنة، ولاسيما في ما تُسمى دول الطوق، لماذا منيت بهزائم جماعيةٍ متكررةٍ أمام إسرائيل، ولماذا عجزت، من بعدُ، عن إعادة بناء قواها العسكرية، وعن تحقيق التنمية الاقتصادية في آن معاً؟ ألم يحن الوقت أيضاً، ومنذ عقود، لتقول لنا أحزاب المعارضة العربية، باختلاف ألوانها السياسية والأيديولوجية، لماذا أخفقت في قيادة شعوبها نحو إسقاط الحكام الذين ظلت تصفهم بالطغاة والمهزومين والفاسدين؟ أليس من حق عائلات مئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى الفلسطينيين أن تقدم لهم قيادتهم السياسية التاريخية كشف حساب صريح، بالأسباب التي أوصلت كفاحهم الوطني التحرري، طوال نصف قرن، إلى إنشاء سلطة حكم ذاتي، هزيلة، ومسلوبة الإرادة، على جزء ضئيل من فلسطين، وتحت حراب الاحتلال؟
هي تساؤلاتٌ قديمةٌ، دونما شك، وطرحُها، الآن هنا، لا يتوقعُ أجوبةً صارت معروفة، ولا ينتظرُ اعترافاتٍ متأخرةً من نخب سياسيةٍ حاكمةٍ أخذتها العزة بالإثم، وتورّطت أخيراً في ذبح شعوبها، بقدر ما يسعى إلى رؤيةٍ أعمق، تنفي تهمة المؤامرة الكونية عن ثورات العرب الراهنة، لتوضح كيف أن الفقراء البسطاء المقموعين، من تونس إلى سوريا، مروراً بمصر وليبيا واليمن، فعلوا ما فعلوا، على مسؤولياتهم الشخصية، ومن دون أن يقودهم أحد.. لأنهم، بكل بساطة، يئسوا من إمكانية أن تقوم المعارضة بدورها المفترض، مثلما يئسوا من احتمال أن تُصلح السلطة نفسها.
بعد ذلك، لا قبله، حيكت المؤامرة فعلاً، والتقت مصالح بعض الطوائف القومية واليسارية والإسلامية مع مصالح أنظمة الحكم، لنشهد هذه المذبحة اليومية المستمرة ضد الثورة الشعبية، في سوريا، وفي مصر، بينما العالم يشيح بنظره، ويتحسب على أمن إسرائيل.
"إذن، هم جميعاً خونة" يستنتج الشاب الثمانيني، وألوذ أنا.. بالكتابة.
 
 
 
 
 
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني