السينما في مواجهة الأصولية: نقاش ناقص

السينما في مواجهة الأصولية: نقاش ناقص

23 يناير 2019
أحمد الحفيان في "فتوى" لمحمود بن محمود (فيسبوك)
+ الخط -
الصراع بين الأصولية "الجهادية" والفكر التنويري غير منتهٍ. يصعب إيجاد أدوات فاعلة ومؤثّرة في كيفية إنهائه. إعمال العقل يواجَه بالقتل والتحريم والتكفير، وطرح أسئلة دينية يؤدّي إلى حروبٍ وتصفيات وعنف، يتعرّض لها طارحو الأسئلة ومانعو العقل والتفكير على حدّ سواء. هذا حاصلٌ في أزمنة قديمة أيضًا، مع تشدّد الكنيسة والتزامها حَرفية النصّ الديني وتقديسه، في صراعها مع ساعين إلى تفكيكه وقراءته خارج المحرّمات. 

السينما العربية معنيّة بهذا الصراع. الجغرافيا ـ المنبثقة منها هذه السينما ـ مُلتهبة بأصوليات "جهادية" وانغلاق مؤسّسات دينية على نفسها، والأصوليات تستفيد من الانغلاق لممارسة مزيدٍ من العنف ضد مشتغلين بطرح الأسئلة حول المقدَّس والمرويّ والمنقول. السينما نفسها مهتمّة بحالة مستمدَّة من شيوع أصوليات جهادية تُغري شبابًا مرتبكين وحائرين أمام أهوال المرحلة، كأن تتابع نتاجاتٌ حديثة مساراتِ بعض هؤلاء الشباب المنتقلين من بلادهم العربية إلى أرض سورية والعراق للجهاد، أو كأن تروي بعض المعاناة التي يُقيم فيها أهل هؤلاء.

آخر تلك النتاجات الحديثة فيلما "الضيف" للمصري هادي الباجوري و"فتوى" للتونسي محمود بن محمود. السينما منعدمة الوجود في الأول، وكثيفة الحضور في الثاني. هذا أساسيّ، فالخطابية والمباشَرة والوضوح عوامل مسيئة للغة الصورة وتفاصيل اشتغالها. المضمون مفتوح على كلّ شيء، لكنه محتاج إلى البصريّ كي يصنع صورة سينمائية تقول وتناقش وتعرض وتحرّض على إعمال دائم للعقل والتساؤل. "الضيف" غارقٌ في جدل فقهي وتاريخي وتحليلي بين مفكّر مسلم ومتنوّر وشاب ملتزم حرفية النص الديني وتفسيرات سلفية له. اختيار ليلة واحدة في مكان واحد حجة درامية تُستخدم كثيرًا في صناعة الأفلام، لكنها في "الضيف" تتوه في دهاليز سجال وأسماء وقراءات وعناوين، وتبتعد عن مفهوم الحجة الدرامية نفسها. هذا يناقض تمامًا "فتوى"، المرتكز على سيناريو متماسك، وعلى حبكة مُقنعة وواقعية لابتعادها عن نقاشٍ مباشر، وعلى أداء يعكس انفعالاً وارتباكًا وعلاقاتٍ مستلّة من واقع الحياة اليومية.

غير المشترك بين الفيلمين كثيرٌ، بينما الموحِّد بينهما كامنٌ في مقاربة الأصولية "الجهادية"، ومحاولة فهم آليات عملها، وكيفية مواجهتها. في "الضيف"، يفشل العقل والتأمّل والتفكير وطرح الأسئلة في المواجهة، لكن إنقاذه يتمثّل بتمكّن المفكر المتنوّر، المتزوّج من مسيحية، من قتل الشاب الإرهابيّ التكفيري، لحماية نفسه وزوجته وابنتهما الوحيدة. في "فتوى"، يفشل العقل والتأمل والتفكير وطرح الأسئلة في المواجهة أيضًا، لكنه يدفع حياته ثمنّا لفشله ولالتزاماته المنفتحة والليبرالية وللعلاقة الهادئة والخاصة بين الفرد وخالقه، إذْ يتمكّن الأصولي الجهاديّ من قتل الفرد أكثر من مرة وفي أكثر من شكل: مباشرةً، برمي شاب من أعلى تلّة، أو بذبح والده أمام مدخل المطار، قبيل لحظات من مغادرته بلده إلى "غربٍ كافر وصليبيّ"؛ أو غير مباشرة، بالاستمرار بالتهديد والتكفير والمطاردة، وإنْ يخفت هذا كلّه أحيانًا، لكن لوقتٍ قليل.

المقارنات متعدّدة بين الفيلمين وخطابهما الفكري واشتغالهما السينمائي. فـ"الضيف" نتاجٌ صافٍ لمؤلّفه، الصحافي والتلفزيوني إبراهيم عيسى؛ بينما "فتوى" خلاصة عمل فرديّ لمؤلّفه ومخرجه. الأول انعكاسٌ لشخصية كاتبه، المحتاج إلى بذل جهد كبيرٍ لامتلاك تقنية الكتابة السينمائية؛ والثاني إضافة بصرية إلى مسارٍ سينمائي لصاحبه.

الثنائي عيسى ـ الباجوري مهتمّ بالخطابية والمباشَرة وتسمية الأشياء والمسائل بأسمائها الواضحة على حساب اللغة السينمائية ومتطلباتها، علمًا أن أداء الممثلين الـ4 الأساسيين باهتٌ ومتصنّع (خالد الصاوي في دور المفكر المتنوّر يحيى التيجاني) ومُبالغٌ به (أحمد مالك في دور أسامة، الشاب الإرهابي) ورتيب إلى حدّ كبير (شيرين رضا وجميلة عوض في دوري الأم المسيحية مرلين والابنة المتحرّرة فريدة)، رغم لمحات (قليلة للغاية) قابلة للنقاش، خصوصًا أن فريدة، الراغبة في ارتباط بأسامة قبل أن يكشف حقيقته أمام العائلة كلّها، تقول لوالدتها إن تربيتها على مفردات الحرية الشخصية في الاختيار والعيش والسلوك "ثقيلٌ" غالبًا على المرء، فمسؤولية الخيارات قاسية وصعبة، وهي (فريدة) تريد ارتداء الحجاب لأنها راغبة في تبديل كبير في نمط عيشها.

أما "فتوى" محمود بن محمود، فسردٌ سينمائي لسيرة شابٍ يُقتل في حادث سير، فيعود والده إبراهيم الناظور (أحمد الحفيان) إلى تونس كي يدفنه، وكي يبدأ رحلة البحث عن الحقائق. ورغم أن الأم لبنى (غالية بنعلي) مفكّرة ولها كتاب يُقارع الالتزام بحرفية النص الديني ويُفنّد عمل الأصوليين "الجهاديين" وتفسيراتهم المتزمّتة، إلّا أن النص السينمائي متحرّر كلّيًا من أي نقاشٍ فقهي أو تاريخي، بينما المسائل كلّها تنكشف شيئًا فشيئًا عبر موقف أو حكاية أو حالة أو انفعال أو مواجهة أو قول متحرّر من كلّ خطابية مباشرة.

ما يؤخذ على "الضيف" أيضًا قوله ضمنًا إن "التربية الليبرالية داخل العائلة فاشلة"، كما في تحليلٍ نقدي. ما تقوله فريدة جزءٌ من مأزق فرديّ إزاء مسألة الحرية الشخصية، وهذا مُطالَب بمناقشته بهدوء لا بتسرّع ضمن جملة عابرة في نصّ مشبع بالنظريات والتحليل. بينما تربية إبراهيم ولبنى لابنهما مروان، قبل انفصالهما أحدهما عن الآخر، يظهر في المآل الذي يبلغه مروان كمتمرّد ـ ولو ضمنيًا ـ على والدة تحارب الأصولية الجهادية بالعقل والتفكير والتأمل والنقاش، قبل أن يقف في مواجهة فتوى قتلها، فيتعرّض للقتل، قبل أن يُقتل والده أيضًا، المُشارك في كشف خطة اغتيالات يزمع جهاديون تنفيذها.

لن يكون سؤال التطرّف الديني والأصولية الجهادية سهلاً. النقاش صعبٌ، لأن التزام حرفية النص أو تفسيرات سلفية للنص متشدّد ومنغلق وغير قابل بشيء آخر سوى التنفيذ، بينما أصحاب النقاش مجرّدون من كلّ حماية ممكنة، وإنْ "تتبرّع" السلطة الحاكمة بحمايتهم (رجلا أمن على مدخل فيلا التيجاني في "الضيف"، ومرافقان أمنيان للبنى في "فتوى")، في حين أنها غير مالكة أداة أخرى لمواجهة الأصولية والتشدّد إلّا العنف والتعذيب والتنكيل، أو تحريض القضاء على مفكرين ومتنوّرين وطارحي أسئلة.

المساهمون