السينما العراقية: غياب الإنتاج والمواهب

السينما العراقية: غياب الإنتاج والمواهب

15 يونيو 2018
من "تحت رمال بابل" لمحمد الدراجي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
رغم قلّة الدعم والإنتاج والتمويل، بل انعدامها كلّها، لا يزال شباب عراقيون حالمون بصناعة السينما يسعون إلى تحقيق هذا الهدف، لكن من دون جدوى. ففي تحقيق "العربي الجديد" بخصوص واقع السينما العراقية اليوم، تبيّن أن قلّة الإنتاج وغياب الدعم المادي يؤثران، بشكل كبير، على حركة الصناعة السينمائية.

هذا ما أكّده الناقد أحمد ثامر جهاد، مُضيفًا أن "هذا السبب دفع عددًا من المخرجين إلى محاولة إيجاد حلول لتحقيق أفلامهم، كالحصول على دعم خارجي من مؤسّسات أو مهرجانات أو منظّمات دولية". ضعف الدعم المحلي أدّى بمخرجين آخرين إلى تحقيق أفلام قصيرة، كما قال جهاد، الذي لاحظ أن "انتعاش حركة الأفلام القصيرة التي ينجزها الشباب بإمكانات محدودة مرتبطٌ بيأسهم من الدعم الحكومي، وبعدم ثقتهم بمؤسّسات الدولة غير المبالية بقطاع السينما". 

القلّة والغياب نفساهما أوجدا حالة أخرى متمثّلة في غياب تقاليد العمل السينمائي، ودخول بعض الطارئين إلى المهنة ممن يبحثون عن مكاسب ضيّقة وأضواء عابرة. رغم هذه السلبية، أكّد أحمد ثامر جهاد أن "هناك تجارب سينمائية طموحة لمخرجين عديدين باتت اليوم متمرّسة في العمل، وهي تبتكر في كل مرة طرقها وأساليبها في إيصال ما تريد إيصاله، مع أن الأوضاع العامة غير المشجِّعة لا تزال على حالها، وإلى هذه اللحظة لم تنشأ أية مؤسّسة فنية رسمية في البلد تراعي هذا القطاع، وتعي مسؤولياتها، وتكون على مستوى تطوّرات العصر الراهن".

أضاف جهاد أن "هذا كلّه، يضاف إلى انعدام أي اهتمامٍ جدي بوضع تشريعات قانونية، من شأنه دعم حركة السينما العراقية في ظلّ تجربة ديمقراطية متعثرة".

سابقًا، كانت السينما العراقية تعتمد على الإنتاج والدعم الحكومي، ومع ذلك أنتجت 99 فيلمًا لغاية عام 2003، بسبب الفكر الإيديولوجي الذي تحكّم بها. في هذا الإطار، قارنت المخرجة إيمان الفراسي، في هذا التحقيق، بين المرحلتين: "بعد عام 2003، وبسبب الانفتاح التكنولوجي، حدث ازدهار قليل في صناعة الأفلام، خصوصًا القصيرة منها، بينما بقيت صناعة الأفلام الطويلة متوقّفة بسبب قلة الإنتاج والتمويل".



أضافت أن السينما العراقية لا تزال "تسير ببطء" لأسباب عديدة: "صنّاع السينما مؤمنون بأن الصناعة تُموَّل من الدولة، مع أنها محتاجة إلى إنتاج خاص أكثر من إنتاج الدولة. لذلك، إنْ أردنا صناعة سينما عراقية حقيقية، يجب فتح المجال أمام القطاع الخاص لإنتاج الأفلام، كونه يتكفّل بالتمويل اللازم".

وأشارت الفراسي إلى أن شبابًا كثيرين يستسهلون تحقيق الأفلام "لتوفّر كاميرات حديثة ومتنوّعة، وأجهزة هواتف ذكية ومتطوّرة"، معتبرةً أن هذا الاستسهال "جعل الكَمّ يسطير على الكيف في صناعة الأفلام القصيرة، بسبب قلة الخبرة والموهبة". وتوقّفت الفراسي عند مشكلة غياب كتّاب السيناريو: "معظم المخرجين الشباب لديهم رؤية لفكرة ما، لكن طريقة معالجتها مُشتّتة بسبب عدم وجود كتاب سيناريو حقيقيين، ما يجعل الفيلم مشوَّهًا. لذلك، نحن محتاجون إلى ورش سينمائية كثيرة تُعنى بطريقة صنع الأفلام بشكل عام، يُشرف عليها متخصّصون".

تُدرك البلدان كلّها، التي تمتلك صناعة سينمائية ذات جودة عالية، أن هذا الفنّ "صناعة وتجارة"، كما قال المخرج نزار شهيد الفدعم، الذي أكّد أن "هذين الأمرين جعلا السينما محتاجةً إلى رأسمال كبير واستثمارات ناجحة لتنشيطها وتطويرها". وأشار إلى أنه من دون توفّر أموال وميزانيات رصينة "لا يمكن صناعة سينما. فالفيلم أكثر الفنون احتياجًا إلى المال، قياسًا بالمسرح والموسيقى والتشكيل، كحاجته إلى ترويجٍ وتسويقٍ ودور عرض، وهذه كلّها تعني أموالاً وبنى تحتية، تتطلّب دعم مؤسّسات الدولة والقطاع الخاص، خصوصًا في العراق والبلاد التي تشبهه". ولاحظ أن الأفلام "قادرة على تحقيق عائد مادي، وتصل إلى أكبر عدد ممكن من المُشاهدين، فتتحقّق رسالتها، أي المعنى من صناعتها، أو تكتفي بعرضها في المهرجانات فقط".

وأشار الفدعم إلى ضعف الإنتاج والتمويل، مركّزًا على غياب المواهب والطاقات والخبرات: "لا رأس المال وحده ولا الدعم المالي وحده يصنع سينما أو يُحقِّق فيلمًا جيّدًا إذا لم تتوفّر الخبرات والطاقات الإبداعية في هذه الصناعة". وتوقّف عند مشروع "بغداد عاصمة الثقافة"، قائلاً إنه تمّ توفير دعم مالي، لكنه "لم يذهب إلى صنّاع الأفلام الحقيقيين، لسقوطه في عملية فساد مالي وإداري أفضت إلى حصول أشخاصٍ غير موهوبين وغير كفوئين عليه، باستثناء عناصر إبداعية معدودة برزت هنا وهناك في مجال صناعة الفيلم". وقال إن "المشروع كان أكبر مشروع فساد في تاريخ الثقافة والفن السينمائي في العراق، لأنه وُلد في أحضانٍ فاسدة، وسُحِب الدعم الحقيقي من المشاريع السينمائية التي يُستشفّ منها أنها ناجحة".



العمود الرئيسي والمحرّك الأول في عملية الإنتاج السينمائي هو التمويل. مع هذا، اعتبر المخرج يحيى العلاّق أن غياب التمويل لا يعني غياب إنتاج سينمائي: "هناك مبدأ مهمّ في ظلّ عدم وجود تمويل مادي لمشروعٍ سينمائيّ، وهو العمل بميزانية قليلة جدًا. هذا لا يؤثّر على جودة الفكرة التي يقدّمها الفيلم".

وأعطى مثلاً على ذلك: عام 2013، رُشِّح "وحوش البرية الجنوبية" للمخرج الشاب بنْ زيتْلين لـ4 جوائز "أوسكار"، أبرزها في فئتي افضل فيلم وأفضل إخراج. ورغم أنّ ميزانيته "منخفضة جدًا" (مليونان ونصف مليون دولار أميركي فقط)، نافس أفلامًا ضخمة الإنتاج لسينمائيين معروفين: "لينكولن" لستيفن سبيلبيرغ، التي تبلغ ميزانيته نحو 80 مليون دولار أميركي، و"آرغو" لبِنْ آفلك و"البؤساء" لتوم هوبر و"دجانكو غير المقيَّد" لكوانتن تارانتينو، وغيرها. أفلام بميزانيات عالية ومع ممثّلين معروفين، بينما ممثلو "وحوش البرّية الجنوبية" يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى، أحدهم خبّاز، والصغيرة المُرشّحة لـ"أوسكار" أفضل ممثلة، كوفنزاني والّيس (مواليد عام 2003) كانت تسأل والدتها: ماذا يعني الـ"أوسكار". الفيلم هو الأول لمخرجه، الذي أنجزه بإمكانات بسيطة جدًا، ومع هذا تمكّن من بلوغ هذه المرحلة، لأن زيتْلين ـ كما قال العلاّق ـ ركّز على القصّة وأداء الممثلين الباهر، الذي اعتبره نقاد أميركيون "فيلم أميركا لهذا العام". أضاف المخرج العراقي: "ميزانية كهذه مُنِحت لأفلامٍ عراقية في "بغداد عاصمة الثقافة"، لكنها لم تكن بالمستوى المطلوب".

عدم توفر أساسيات السينما للمواهب ترك أثره أيضًا، فتراجع مستوى الأفلام في العراق: "رغم قلّة المواهب، أنجز شباب عراقيون أفلامًا بميزانيات قليلة للغاية لكنّها جيّدة"، بحسب العلاّق.

إذًا، يُمكن لغياب الميزانيات أن يوقف الحراك السينمائي، لكنه يضع صانع السينما أمام تحدٍّ كبير، كي يُنجز فيلمًا بقصّة قوية وحبكة أقوى. يشير يحيى العلاّق إلى أنه في الأعوام الـ4 الماضية، "لم تدعم أية مؤسّسة عراقية ثقافية أي فيلم"، ومع هذا "أُنجزت أفلامٌ كثيرة في غياب الدعم الحقيقي". ويُعوِّل العلاّق على مشروع "الصندوق الوطني لدعم السينما في العراق" الذي يوفّر منحًا لصانعي السينما لتحقيق أفلامهم.

المساهمون